إنها صورة فنية رائعة أحكم القرآن الكريم صياغتها، وأجادت الريشة الإلهية رسمنها، تكشف في جلاء ووضوح عن حقيقة هذا الكذب الضال، إنه حقير قذر، لا يؤثر فيه النصح والإرشاد ولا ينفع معه الوعظ والتذكير، قد ركب رأسه، ولج في ضلاله، واتخذ الشيطان إلها من دون الله ثم تأمل الكلمات التي نظمت منها صورة المشبه به لا تجد في مفردات اللغة ـ على كثرتها، من بقوم مقامها ويسد مسدها، ثم تأمل كلمة " الكلب " وحدها لا تجد كلمة في اللغة تصور هذا المعنى وتبرزه في صورة حية متحركة سواها، إذ كل مخلوق إنما يلهث من مرض أو عطش أو إعياء إلا الكلب فإنه يلهث في جميع أحواله في حال الدلال وفي حالة الراحة، وفي حالة الصحة والمرض وفي حالة الري والعطش.
قال - تعالى -: ﴿٢١﴾ وَحُورٌ عِينٌ ﴿٢٢﴾ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ﴿٢٣﴾ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٢٤﴾ [سورة الرحمن].
شبه القرآن الكريم الحور العين باللؤلؤ المكنون في الصفاء والنقاء والهدوء والصيانة.
تأمل نظم هذه الصورة التشبيهية الإلهية أنه فوق طاقة البشر. ثم تأمل هذه الكلمة العجيبة " اللؤلؤ " هل في مقدورك أو في مقدور أي بليغ مهما أوتي من البراعة والبيان أن يأتي بكلمة أخرى تؤدي معناها، وتصور ما صورته؟ ثم تأمل الدقة في صفة هذا اللؤلؤ بكونه مكنونا.
إن اللؤلؤ فيه الصفاء والهدوء والنقاء، وهو أحجار كريمة من شأنها أن تصان ويحرص عليها.
تأمل الارتباط العجيب والصلة الوثيقة بين الحور العين واللؤلؤ المكنون، إنه الإعجاز يلبس ثوب التشبيه فيقف البلغاء أمامه ضعفاء قد استولت عليه الحيرة وسيطرت على عقولهم الدهشة وداعبت أنامل الإعجاب حبات قلوبهم. فخروا ساجدين لعظمته، وشهدوا بأنه البيان الإلهي الذي لا يقدر عليه بشر.
قال - تعالى -: ﴿٣﴾ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ﴿٤﴾ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴿٥﴾ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴿٦﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿٨﴾ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿٩﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿١٠﴾ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿١١﴾[سورة القارعة].
شبه القرآن الكريم الناس يوم القيامة بالفراش المبثوث في ضعفهم وضالتهم وتهافتهم.
و شبه الجبال بالعهن " الصوف " المنفوض في هشاشتها وخفتها.
مشهدان رائعان رسمتهما الريشة الإلهية فأجادت وأعجزت، وسخرت وأدهشت.
تأمل هذه الكلمة " الفراش " إنها تصور لك بظلها وجرسها، وإيحائها الناس في هذا اليوم في منتهى الضعف والضالة، وهم مستخفون من هول هذا اليوم.
و تأمل الدقة في وصف الفراش في وصف الفراش بكونه مبثوثاً أن هذا الوصف يصور لك كثرة الناس في هذا اليوم وتهافتهم. ثم حدثني بربك هل في مفردات اللغة كلمة تصور هذا المشهد سوى هذه الكلمة القرآنية؟
و هل هناك أعجب من هذه الدقة في وصف الفراش بكونه مبثوثاً؟.
ثم دقق نظرك في كلمة " العهن " هل في قواميس اللغة العربية كلمة أقدر على تصوير هذا المشهد من هذه الكلمة؟ إنها بجمالها وظلها وجرسها الساحر تصور لك الجبال الضخمة الثابتة بالصوف المنقوش الذي تتقاذفه الرياح الهوج. ثم تأمل بعقلك ر خيالك الدقة والإحكام في وصف العهن بكونه منفوشاً إن هذا الوصف يصور لك الجبال الضخمة الثابتة في منتهى الهشاشة والخفة.
إنه النظم القرآني يبهر العقول، ويطير بالألباب، ويذهب بسر البلاغة وسحر البيان.
من روائع الاستعارة في القرآن الكريم
قال - تعالى -: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) (يّس: ٣٧)
استعير في الآية الكريمة: " السلخ " وهو كشط الجلد عن الشاة ونحوها لإزالة ضوء النهار عن الكون قليلاً قليلاً، بجامع ما يترتب على كل منهما من ظهور شيء كان خافياً، فبكشط الجلد يظهر لحم الشاة، وبغروب الشمس تظهر الظلمة التي هي الأصل والنور طاريء عليها، يسترها بضوئه. و هذا التعبير الفني يسميه علماء البلاغة " الاستعارة التصريحية التبعية ".
استعارة رائعة وجملية، إنها بنظمها الفريد وبإيحائها وظلها وجرسها قد رسمت منظر بديعاً للضوء وهو ينحسر عن الكون قليلاً قليلاً وللظلام وهو يدب إليه في بطء.
إنها قد خلعت على الضوء والظلام الحياة، حتى صارا كأنهما جيشان يقتتلان، قد أنهزم أحدهما فولى هارباً، وترك مكانه للآخر.
تأمل اللفظة المستعارة وهي " نسلخ " إن هذه الكلمة هي التي قد استقلت بالتصوير والتعبير داخل نظم الآية المعجز فهل يصلح مكانها غيرها؟
قال - تعالى -: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) (التكوير: ١٨) استعير في الآية الكريمة خروج النفس شيئاً فشيئاً لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلاً قليلاً بمعنى النفس، تنفس بمعنى خرج النور من المشرق عند انشقاق الفجر.


الصفحة التالية
Icon