استعارة قد بلغت من الحسن أقصاه، وتربعت على عرش الجمال بنظمها الفريد، إنها قد خلعت على الصبح الحياة حتى لقد صار كائنا حيا يتنفس، بل إنساناً ذا عواطف وخلجات نفسية، تشرق الحياة بإشراق من ثغره المنفرج عن ابتسامة وديعة، وهو يتنفس بهدوء، فتتنفس معه الحياة، ويدب النشاط في الأحياء على وجه الأرض والسماء، أرأيت أعجب من هذا التصوير، ولا أمتع من هذا التعبير؟
ثم تأمل اللفظة المستعارة وهي " تنفس " أنها بصوتها الجميل وظلها الظليل، وجرسها الساحر قد رسمت هذه الصورة البديعة في إطار نظم الآية المعجزة، فهل من ألفاظ اللغة العربية على كثرتها يؤدي ما أدته، ويصور ما صورته؟
قال - تعالى -: (إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) (الحاقة: ١١).
استعير في الآية الكريمة " الطغيان " للأكثر الماء بجامع الخروج عن حد الاعتدال والاستعارة المفرط في كل منها.
ثم اشتق من الطغيان: " طغى " بمعنى كثر.
استعارة فريدة لا توجد في غير القرآن إنها تصور لك الماء إذا كثر وفار واضطرب بالطاغية الذي جاوز حده، وأفرط في استعلائه. أرأيت أعجب من هذا التصوير الذي يخلع على الماء صفات الإنسان الآدمي؟ ثم تأمل اللفظة المستعارة " طغى " إنها بصوتها وظلها وجرسها إيحائها قد استقلت برسم هذه الصورة الساحرة في إطار نظم الآية المعجز.
قال - تعالى -: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر: ٩٤).
استعير في الآية الكريمة: " الصدع " وهو كسر الزجاج للتبليغ بجامع التأثير في كل منهما أما في التبليغ فلأن المبلغ قد أثر في الأمور المبلغة ببيانها بحيث لا تعود إلى حالتها الأولى من الخفاء، وأما في الكسر فلأن فيه تأثير لا يعود المكسور معه إلى الإلتئامه.
ثم اشتق من الصدع معنى التبليغ اصدع بمعنى بلغ، استعارة رائعة وجميلة إنها تبرز لك ما أمر به الرسول - ﷺ - في صورة مادة يشق بها ويصدع. إنها تتبرز لك المعنى المعقول في صورة حسية متحركة كأنها كأنك تراها بعينك وتلمسها بيدك. تأمل اللفظة المستعارة " اصدع " إنها بصورتها وجرسها وإيحائها قد استقلت برسم هذه الصورة الفردية المؤثرة إذ أن من يقرأها يخيل إليها أنه يسمع حركة هذه المادة المصدوعة تخيل لو استبدلت كلمة " اصدع " بكلمة " بلغ" ألا تحس أن عنصر التأثير قد تضاءل وأن الصورة الحية المتحركة قد اختفت وأن المعنى قد أصبح شاحباً باهتاً؟
إن اللفظة المستعارة هي التي رسمت هذه الصورة في إطار نظم الآية المعجزة.
قال - تعالى -: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً) (الكهف: ٩٩).
استعير في الآية الكريمة الموج " حركة الماء" للدفع الشديد بجامع سرعة الاضطراب وتتابعه في الكثرة ثم اشتق من الموج بمعنى الدفع الشديد" يموج " بمعنى يدفع بشدة.
إن هذه الاستعارة القرآنية الرائعة تصور للخيال هذا الجمع الحاشد من الناس احتشاداً لا تدرك العين مداه حتى صار هذا الحشد الزاخر كبحر ترى العين منه ما تراه من البحر الزاخر من حركة وتموج واضطراب. تأمل اللفظة المستعارة أنها في إطار نظم الآية المعجزة قد استقلت برسم هذا المشهد الفريد بصوتها وجرسها وإيحائها.
قال - تعالى -: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (ابراهيم: ١).
استعير في الآية الكريمة الظلمات للضلال بجامع عدم الاهتداء في كل منها.. واستعير النور بجامع الاهتداء في كل منها. وهذا المسلك الأدبي يسميه علماء البلاغة " الاستعارة التصريحة الأصلية
هذه الاستعارة الفردية تجعل الهدى والضلال يستحيلان نوراً وظلمة. إنها تبرز المعاني المعقولة الخفية في صورة محسوسة، حية متحركة كأن العين تراها واليد تلمسها.
تأمل كلمة " الظلمات " إنها تصور لك بظلامها الضلال ليلاً دامساً يطمس معالم الطريق أمام الضلال فلا يهتدي إلى الحق ثم تأمل الدقة القرآنية في جمع " الظلمات " أنه يصور لك إلى أي مدى ينبهم الطريق أمام الضلال فلا يهتدون إلى الحق وسط هذا الظلام المتراكم.
ثم تأمل كلمة " النور " أنها بنورها تصور لك الهداية مصباحاً منيراً ينير جوانب العقل والقلب ويوضح معالم الطريق أمام المهتدي فيصل في سهولة ويسر إلى الحق فينتفع به فيطمئن قلبه وتسكن نفسه ويحظى بالسعادة في دنياه وأخراه.
من روائع الكناية في القرآن الكريم
قال - تعالى -: (ِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(البقرة: من الآية٢٢٣) لقد كنى القرآن الكريم في هذه الآية بكلمة " الحرث " عن المعاشرة الزوجية.


الصفحة التالية
Icon