إن هذه الكناية الفردية مما انفرد به القرآن الكريم فهي لطيفة دقيقة راسمة مصورة، مؤدية مهذبة، فيها من روعة التعبير وجمال التصوير، وألوان الأدب والتهذيب ما لا يستقل به بيان، ولا يدركه إلا من تذوق حلاوة القرآن. إنها عبرت عن العاشرة الزوجية التي من شأنها أن تتم في السر والخفاء بالحرث وهذا نوع من الأدب رفيع وثيق الصلة بالمعاشرة الزوجية، وتنطوي تحته معاني كثيرة تحتاج في التعبير عنها إلى الآف الكلمات انظر إلى ذلك التشابه بين صلة الزراع بحرثه وصلة الزوجة في هذا المجال الخاص، ويبن ذلك النبت الذي يخرجه الحرث، وذلك النبت الذي تخرجه الزوج، وما في كليهما من تكثير وعمران وفلاح كل هذه الصور والمعاني تنطوي تحت كلمة " الحرث " أليست هذه الكلمة معجزة بنظمها وتصورها؟
هل في مفردات اللغة العربية ـ على كثرتها ـ ما يقوم مقامها ويؤدي ما أدته ويصور ما صورته. إن المعنى لا يتحقق إلا بها. وعن التصوير لا يوجد بسواها.
قال - تعالى -: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(البقرة: من الآية٢٤).
هذه الآية كناية عن عدم العناية عند ظهور المعجزة. أي لا تعاندوا عند ظهور المعجزة فتمسكم هذه النار العظيمة تأمل هذه الكناية ومدى ما فيها من جمال التعبير، وروعة التصوير، ولطافة الإيجاز. إنها عبرت عن العناد عند ظهور المعجزة بالنار العظيمة، وهذا التعبير فيه ما فيه من شدة التنفيذ وقوة التأثير، ثم أن هذا التعبير قد أبرز لك هذا المعنى الفكري المجرد في صورة محسوسة ملموسة ولم يقف عند هذا الحد من التجسيم والتشخيص بل تعداه إلى التصيير والتحويل. فحوله على نار ملتهبة متأججة متوهجة بل تعداه إلى أعجب من هذا التصوير، ولا أروع وألذ من هذا التعبير؟ إنه الإعجاز يلبس ثوب الكناية فتنحني له هامات البلغاء، ويثير في النفس أسمى آيات الإعجاب.
قال - تعالى -: (وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً)(البقرة: من الآية٢٣٥).
في هذه الآية كنى القرآن الكريم عن الجماع بالسر. تأمل هذه الكناية ومدى ما فيها من اللطائف والأنوار والأسرار. تأمل هذه الكناية ومدى ما فيها من اللطائف والأنوار والأسرار. إن في الكناية بالسر عن الجماع من ألوان الأدب والتهذيب ما يعجز عن وصفه أساطين البيان، وفيها من جمال التعبير ما يسترق الأسماع ويهز العواطف ويحرك الأحاسيس والمشاعر. لقد ألبست الجماع الذي يتم في السر ثوب السر فذهبت بسر الفصاحة والبيان. أبعد هذا يقال أن الكناية في القرآن يستطيع أن يحاكيها بنو الإنسان؟ أبداً والله إن بني الإنسان من المعجز بحيث لا يمكنهم فهم ما تنطوي عليه الكناية في القرآن من الأسرار.
قالى - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) (آل عمران: ٩٠).
كنى القرآن الكريم في هذه الآية بنفي التوبة عن الموت على الكفر. تأمل هذه الكناية ومدى ما فيها من الجمال والروعة. ألا تحس أن التعبير الذي كنى به القرآن أجمل من أي تعبير آخر؟ ألا تحس أن في هذا التعبير إيجاز لطيف؟ إن التعبير بجماله وإيجازه وبديع نظمه فوق مقدور البشر.
قال - تعالى -: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل: ٥).
كنى القرآن الكريم " بالعصف المأكول " عن مصيرهم إلى العذر فإن الورق إذا أكل انتهى حاله إلى ذلك.
تأمل هذه الكناية إن فيها من ألوان الأدب والجمال ما لا يستقل به بيان، وفيها من الإعجاز اللطيف ما يعجز عن وصفه مهرة صناع الكلام. أما الأدب والجمال ففي التعبير عن العذرة بالعصف المأكول وهذا التعبير مما أنفرد به القرآن فلا يوجد في غيره، وأما الإيجاز اللطيف ففي اختصار مقدمات لا أهمية لها بالتنبيه على النتيجة الحاسمة التي يتقرر فيها المصير. وفيها زيادة على ذلك التلازم الوثيق بين اللفظ والمعنى الكنائي الذي لا يتخلف أبدا فإن العصف المأكول لابد من صيرورته إلى العذرة.
فالمعنى لا يؤدي إلا بهذا اللفظ لا يصلح لهذا المعنى حتى لتكاد تصعب التفرقة بينهما فلا يدري أيهما التابع؟ وأيهما المتبوع؟ ومن هنا يأتي الإعجاز.
قال - تعالى -: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الاسراء: ٢٩).
كنى القرآن الكريم في هذه الآية بغل اليد إلى العنق عن البخل، وببسطها كل البسط عن الإسراف. تأمل الكنايتين تجد فيهما من روائع البيان ما لا يحيط به فكر إنسان فيهما جمال في التعبير، وروعة في التصوير، وإيجاز وتأثير، وتنفير.