حدثني بربك ألا ترى أن التعبير عن البخل باليد المغلولة إلى العنق فيه تصوير محسوس لهذه الخلة المذمومة في صورة بغيضة منفرة؟ فهذه اليد التي غلت إلى العنق لا تستطيع أن تمتد، وهو بذلك يرسم صورة البخيل الذي لا تستطيع يده أن تمتد، وهو بذلك يرسم صورة البخيل الذي لا تستطيع يده أن تمتد بإنفاق ولا عطية. والتعبير ببسطها لك البسط يصور هذا المبذر لا يبقى من ماله على شيء كهذا الذي يبسط يده فلا يبقى بها شيء. وهكذا استطاعت الكناية أن تنقل المعنى الذي يبسط يده فلا يبقى بها شيء. وهكذا استطاعت الكناية أن تنقل المعنى قوياً مؤثراً ثم تأمل التلازم الوثيق الذي لا يتخلف أبداً بين التعبير والمعنى الكنائي. إن هذا التلائم يدلك على أن المعنى الكنائي لا يمكن تأديته وتصويره إلا بهذا التعبير، وأن هذا التعبير لا يصلح إلا لهذا المعنى. هل في مقدور البشر أن يحاكوا هذا الأسلوب؟
إعجاز في نغم القرآن
إنك إذا قرأت القرآن قراءة سليمة، وتلاوة صحيحة. أدركت أنه يمتاز بأسلوب. إيقاعي ينبعث منه نغم ساحر يبهر الألباب، ويسترق الأسماع، ويسيل الدموع من العيون. ويستولي على الأحاسيس والمشاعر، وأن هذا النغم يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار والفواصل السريعة، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة، ويتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال ولكنه ـ على لك حال ـ ملحوظ دائماً في بناء النظم القرآني. إنه تنوع موسيقي الوجود في أنغماه وألحانه.
و لعنا لا نخطئ إن رددنا سحر هذا النغم إلى نسق القرآن الذي يجمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً يقول المرحوم الأستاذ سيد قطب: " على أن النسق القرآني قد جمع بين مزايا الشعر والنثر جميعاً، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة، وأخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغنى عن التفاعيل، والتقفية التي تغني عن القوافي، وضم ذلك إلى الخصائص التي ذكرنا فجمع النثر والنظم جميعاً " [٦].
أقرأ معي الآيات الأولي من سورة النجم:

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴿١﴾
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى
عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى
تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴿١- ٢٢﴾ [سورة النجم].
تأمل الآيات تجد فواصل متساوية في الوزن تقريباً ـ على نظام غير نظام الشعر العربي ـ متحدة في حرف التقفية تماماً، ذات إيقاع موسيقي متحد تبعاً وذلك، وتبعاً لأمر آخر لا يظهر ظهر الوزن والقافية، لأنه ينبعث من تألف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومرده إلى الحس الداخلي، والإدراك الموسيقي، الذي يفرق بين إيقاع موسيقي وإيقاع، ولو اتحدت الفواصل والأوزان. والإيقاع الموسيقي هنا متوسط الزمن تبعاً لتوسط الجملة الموسيقية في الطول متحد تبعاً لتوحد الأسلوب الموسيقي وإيقاع، ولو اتحدت الفواصل والأوزان.
و لا يعني هذا أن كلمة " الأخرى " أو كلمة " الثالثة " أو كلمة " إذن " زائدة لمجرد القافية أو الوزن، فهي ضرورية في السياق لنكث معنوية خاصة.
و تلك ميزة فنية أخرى أن تأتي اللفظة لتؤدي معنى في السياق لنكث معنوية خاصة، وتلك ميزة فنية أخرى أن تأتي اللفظة لتؤدي معنى في السياق، وتؤدي تناسباً في الإيقاع، دون أن يطغى هذا على ذلك، أو نحو يختل إذا قدمت أو أخرت فيه، أو عدلت في النظم أي تعدل.
و إن هذا النغم القرآني ليبدو في قمة السحر والتأثير في مقام الدعاء، إذا الدعاء ـ بطبيعة ـ ضرب من النشيد الصاعد إلى الله، فلا يحلو وقعه في نفس الضارع المبتهل إلا إذا كانت ألفاظه جميلة منتقاة وجملة متناسقة متعانقة، وفواصله متساوية ذات إيقاع موسيقي متزن، والقرآن الكريم لم ينطق عن لسان النبيين والصديقين والصالحين إلا بأحلى الدعاء نغماً، وأروعه سحر بيان، أن النغم الصاعد من القرآن خلال الدعاء يثير بكل لفظة صورة، وينشئ في كل لحن مرتعاً للخيال فسيحا: فتصور مثلاً ـ ونحن نرتل دعاء زكريا - عليه السلام - ـ شيخاً جليلاً مهيباً على كل لفظه ينطق بها مسحة من رهبة، وشعاع من نور، ونتمثل هذا الشيخ الجليل ـ على وقاره ـ متأجج.


الصفحة التالية
Icon