وهكذا نرى أن قوله تعالى:" أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ "يدل على معنى، لم يكشف العلم سره، إلا بعد نزول القرآن بأكثر من ألف وأربعمائة سنة، حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة، تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر. وصدق رب العزة حين قال:
" سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ "(فصلت: ٥٣)
٤- والسر الرابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التكرار:
ومن ذلك ما جاء فيها من تكرار في الآيتين: الأولى والثانية. وفي الآيتين: الثامنة والتاسعة. وفي الآيتين: الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين.
أ-أما التكرار في الآيتين: الأولى والثانية:
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ "*" وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "(القيامة: ١- ٢)
ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة، وبالنفس اللوَّامة.
والثاني: أنه أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوَّامة.
والثالث: أنه لم يقسم بهما.
وقد سبق أن ذكرت أن قوله تعالى:" لَا أُقْسِمُ " ليس بقسم مباشر؛ بل هو تلويح بالقسم وعدول عنه، لعدم الحاجة إليه. وأن " لَا " جيء بها قبل الفعل " أُقْسِمُ "، لنفي الحاجة إلى القسم، ولم يؤتَ بها لغرض آخر. وهذا هو سرُّ البيان فيها. وأما تكرارها مع الفعل" أُقْسِمُ "ففيه سرٌّ آخرُ من أسرار البيان، وبيان ذلك أنه لو قيل:
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "، احتمل ذلك معنيين:
أحدهما: نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين.
والثاني: نفي الحاجة إلى القسم بأحدهما، دون الآخر.
وأما قوله تعالى:
" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ "
فيدل على نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين ومنفردين. وهذا يعني أن التكرار هنا مقصود، ويدلك على ذلك أن السورة الكريمة تقوم من مطلعها إلى ختامها على المزاوجة بين إيقاع يوم القيامة، وإيقاع النفس اللوَّامة؛ وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة. أو كأنه اللازمة الإيقاعية، التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة بطريقة دقيقة جميلة.
أما يوم القيامة فقد ورد وصفه في هذه السورة وفي غيرها بما لم يوصف به غيره، وسيمر بنا شيء من هذا الوصف.. وأما النفس اللوَّامة فقد روي في تفسيرها أقوال متنوعة، كلها متقاربة المعنى، ولعل أقربها إلى المراد ما روي عن الحسن البصري من قوله: إن المؤمن، والله ! ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا، ما يعاتب نفسه. وعنه أيضًا: ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة.
يقول سيد قطب رحمه الله:” فهذه النفس اللوَّامة، المتيقظة التقية، الخائفة المتوجِّسة، التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها، هي النفس الكريمة على الله؛ حتى ليذكرها مع يوم القيامة. ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة، نفس الإنسان، الذي يريد أن يفجر أمام خالقه، فيسأل سؤال المتهكم عن يوم القيامة، مستبعًدا وقوعه، ويمضي قدمًا في فجوره وغيِّه دون حساب لنفسه، ودون تلوُّم، ولا تحرُّج، ولا مبالاة ! “.
" بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ "(القيامة: ٥- ٦)
والسؤال بـ" أَيَّانَ "هذا اللفظ المديد الجرس، يوحي باستبعاد ذلك السائل لهذا اليوم الواقع لا محالة؛ وذلك تمشيًا مع رغبته في أن يفجر، ويمضي في فجوره، لا يصدُّه شبح البعث، وشبح الآخرة. والآخرة لجام للنفس الراغبة في الشر، ومَصَدٌّ للقلب المحب للفجور؛ فهو يحاول إزالة هذا المَصَدِّ، وإزاحة هذا اللجام؛ لينطلق في الشر والفجور، بلا حساب ليوم الحساب.
ومن ثمَّ كان الجواب على تهكمه بيوم القيامة، واستبعاده لموعده سريعًا خاطفًا حاسمًا، ليس فيه تريث، ولا إبطاء، حتى في إيقاع النظم، وجرس الألفاظ..
" فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ *وَخَسَفَ الْقَمَرُ *وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ *يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ *كَلَّا لَا وَزَرَ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ *يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ *بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ "(القيامة: ٧- ١٥)
ب- وأما التكرار في الآيتين: الثامنة والتاسعة:
" وَخَسَفَ الْقَمَرُ " *" وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ "(القيامة: ٨- ٩)
فالمراد به تكرار لفظ ﴿ القمر ﴾. والسر في هذا التكرار أن الله تعالى أخبر عنه في الآية الثانية بغير الخبر في الأولى. فخسْف القمر غير جمعه مع الشمس. وخسفه معناه: ذهاب ضوئه وإظلامه. قال أبو حاتم محمد بن إدريس:” إذا ذهب بعضه فهو كسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف “.


الصفحة التالية
Icon