" وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ "(يوسف: ٣٦)
قال :” فدلت كلمة المصاحبة ( مع ) على أن دخول هذين الفتيين السجن كان بمعية يوسف، مصاحبين له، ملحقين به. ولو رمت حذف ( مع ) من هذه الآية الكريمة، فلن تجد هذه المعاني، التي أومأت إليها كلمة المصاحبة من أن دخول الثلاثة السجن في آن واحد.
ونشرت الباء بدلالتها على الإلصاق والملابسة على فعل الدخول، حين تعدَّى بها معنى الجماع في قوله تعالى:
" وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ")النساء: ٢٣)
يقال: دخل بعروسه: جامعها. ومعنى دخلتم بهن: جامعتوهن، وهو كناية عن الجماع.. وقد أعانت الباء على تحقيق الكناية في قوله:
" دَخَلْتُم بِهِنَّ "
بما لا يمكن أن تنهض به الحقيقة؛ كما قدرها الزمخشري بقوله: يعني: أدخلتموهن الستر.. مما يدل على قدرة هذه اللغة على الوفاء بآداب الإسلام، وما يوجبه من الترفع عن التصريح بما يستحسن الكناية عنه، إلى جانب ما جسدته الباء بما فيها من اللصوق والملابسة من الدلالة على شدة الارتباط، والقرب الروحي، والمخالطة النفسية بين الزوجين، بما يحقق الغاية من قوله تعالى:
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْها "(الروم: ٢١)..“
هذا ما ذكره الدكتور الأنصاري عن تعدي الفعل ( دخل ).
والمعروف في اللغة والنحو: أن الفعل( دخل ) يستعمل لازمًا تارة. ومتعديًا تارة أخرى. ومتعديًا ولازمًاتارة ثالثة.
أما كونه لازمًافلأن مصدره على: فعول، وهو غالب في الأفعال اللازمة؛ ولأن نظيره ونقيضه كذلك:( عبر ) و( خرج )، وكلاهما لازم.
ويتعين كونه لازمًا، إذا كان المدخول فيه مكانًا غير مختص؛ كقوله تعالى:
" ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم "(الأعراف: ٣٨)
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السَّّلْمِ كَآفَّةً " (البقرة: ٢٠٨)
فإذا كان المدخول فيه مكانًا مختصًّا، فإما أن يكون ذلك المكان متسعًا جدًّا، بحيث يكون كالبلد العظيم. أو يكون ضيِّقًا جدًّا، بحيث يكون الدخول فيه ولوجًا وتقحمًا. أو يكون وسطًا بينهما.
فإذا كان الأول، وهو ( أن يكون المكان متسعًا جدًّا)، لم يكن من نصبه بدٌّ؛ كقول العرب: دخلت الكوفة والحجاز والعراق. ويقبُح أن يقال: دخلت في الكوفة، وفي الحجاز، وفي العراق، ومنه قوله تعالى:
" يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ "(المائدة: ٢١)
" ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " (النحل: ٣٢)
وإذا كان الثاني، وهو( أن يكون المكان ضيِّقًا جدًّا)، لم يكن من جره بدٌّ؛ كقولهم:( دخلت في البئر ).
وإذا كان الثالث، وهو ( أن يكون المكان وسطًا بينهما)، جاز فيه النصب، والجر؛ كقولهم: دخلت المسجد، وفي المسجد. ونصبه أبلغ من جره.
(( ومنه قول النبي ﷺ في الحديث، الذي رواه عنه أبو سعيد الخدري:” لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ..“.
هذا في صحيح البخاري. وفي صحيح مسلم:
” لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ..“.
وفي سنن ابن ماجة:
”لَتَتَّبِعُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَاعًا بِبَاعٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَشِبْرًا بِشِبْرٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ فِيهِ.. )).
فجاء ( دخل ) متعديًا إلى ( الجحر ) تارة بنفسه، وتارة أخرى بـ( في )؛ لأنه من الأماكن المختصَّة، التي تكون وسطًا بين المتسعة جدًّا، والضيقة جدًّا. وقد وهم بعضهم حين ظن أن الجحر من الأماكن الضيقة، وهو ليس منها؛ لأن الدخول فيه لا يكون ولوجًا وتقحُّمًا؛ كالدخول في البئر.
أما انتصابه فعلى المفعول به، لا على نزع الخافض؛ لأن الأصل في الفعل ( دخل ) المتعدي إلى المكان المختص أن يتعدى بنفسه، ومنه قوله تعالى :
" يَا أيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ "(النمل: ١٨)
وأما ما ذهب إليه الدكتور الأنصاري من القول بأن ( دخل ) يتعدي بالحرف ( على )، وأنه يدل على ارتفاع المكان، وعلوه، فليس كذلك؛ لأن ( دخل ) لا يتعدَّى بـ( على ) أصلاً.
وقد يكون ما ذكره فضيلته من تعليل مقبولاً، لو أن ( دخل ) من الأفعال، التي تتعدى إلى مفعولها بحرفين، أو أكثر. أو كان من الأفعال، التي تتعدى إلى مفعولين أحدهما بأنفسها، والثاني بوساطة حرف الجر. فحينذ فقط يمكن أن نختار من هذه الأحرف أنسبها للسياق، ونعدِّي الفعل به؛ كما كان الشأن في غيره من الأفعال، التي تقدم ذكرها، من نحو قولهم: مررت به، ومررت عليه.


الصفحة التالية
Icon