١- أنه آيات مُبيِّنات:" وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ". أي: مُوضِّحات لأحكام الدين وحدوده، لا تدع مجالاً للشك، أو الغموض، والتأويل، والانحراف عن منهج الله القويم. ويدخل في عموم هذه الآيات المبيِّنات الآيات البيِّنات، التي أخبر الله تعالى عن إنزالها في هذه السورة:
" وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ "
فهذه بيِّنات في أنفسها، وتلك مع كونها بيِّنات في أنفسها مُبيِّنات لغيرها.
٢- أنه مثل من الذين خَلَوْا من قبلنا:" وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ "، وهو المراد بما ذكره الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الغابرة وقصصهم، التي يعتبر بها، ويقاس عليها أحوال الأمم المستقبلة؛ كما قال تعالى:
" لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ "(يوسف: ١١١)
ومن هذه القصص- التي فيها العبرة لمن أراد أن يعتبر- ما أخبر الله تعالى عنه في هذه السورة المباركة من قصة مريم، التي رماها قومها بالفاحشة، فبرَّأها الله تعالى. فهذه القصة فد جعلها الله تعالى مَثَلاً لكل قصة تماثلها؛ كقصة عائشة- رضي الله عنها- التي رماها أهل الإفك من قومها بما لا يليق بها، فأظهر الله تعالى براءتها في هذه السورة المباركة.
٣- أنه " وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ "، الذين تستشعر قلوبهم رقابة الله، فتخشى وتستقيم، وكذلك هو موعظة للكفرة الضالين. وإنما خَصَّ المتقين بالذكر؛ ليبين أنهم هم الذين اتعظوا، وانتفعوا بتلك المواعظ. ونظير ذلك قوله تعالى:
" إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ "(يس: ١١)
وقد كان عليه الصلاة والسلام منذرًا لكل الناس؛ ولكنه خصَّ الذين اتبعوا الذكر، وخشوا الرحمن بالغيب؛ لأنهم هم الذين انتفعوا بالإنذار. ثم تلا ذلك قول الله جل وعلا:
" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ " إلى قوله: " وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "(النور: ٣٥)
فبين سبحانه وتعالى أن كل ما أنزله من آيات بيِّنات، ومُبيِّنات، وما فرضه من أحكام، وما حَدَّه من حدود، وما ذكره من أحوال الأولين والآخرين وقصصهم، وما ذكره من أوامرَ، ونواهٍ، ومواعظَ، في هذه السورة المباركة خاصة، وفي القرآن الكريم عامة؛ إنما هو نور مستمد من نوره سبحانه؛ ولهذا سمَّى هذه السورة:﴿ سورة النور ﴾. وهكذا تتناسق الآيات مع بعضها البعض في سلك رفيع من النظم بديع !
ثانيًا- قوله تعالى:" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "
يقتضي ظاهره أنه سبحانه وتعالى في نفسه نور. ولما كان النور- في لغة العرب- يعني الضوء المدرَك بالبصر، حمل جمهور المفسرين إسناده إلى الله عز وجل على المجاز. وإسناده- عندهم- على اعتبارين:
إما على اعتبار أنه بمعنى: اسم الفاعل. وعليه يكون التقدير:" اللَّهُ مُنَوِّرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "
أو على اعتبار حذف مضاف، تقديره:" اللَّهُ ذُو نُورِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "
أما كونه بمعنى اسم الفاعل فهو مروي عن الحسن وأبي العالية والضحاك. وعليه جماعة من المفسرين، ويؤيده قراءة بعضهم:" مُنَوِّرُ "، وكذا قراءة علي- رضي الله عنه- وأبي جعفر، وغيرهما:" نَوَّرَ الأرضَ " فعلاً ماضيًا، ومفعولاً به.
وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه فسَّر نور السماوات بهادي أهل السماوات والأرض. وبمدبِّر الأمر فيهما، وروي ذلك عن مجاهد أيضًا.
وجعل ذلك بعضهم من التشبيه البليغ، ووَجْهُ الشَّبَه كونُ كل من التدبير والنور سبب الاهتداء إلى المصالح، ويؤيده ما أخرجه الطبري عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- من قوله:" إن إلهي يقول: نوري هُدَايَ ". فشبَّه سبحانه وتعالى نوره بهداه.
وهذا- كما قال ابن قيِّم الجوزية- إنما يرجع إلى فعله سبحانه، وإلا فالنور، الذي هو وَصْفٌ من أوصافه جل وعلا قائمُ به، ومنه اشْتُقَّ له اسم النور، الذي هو أحد أسمائه الحسنى. فهذا اسمه، وذاك فعله، ولا تَنافِيَ بين الاسم والفعل، وقد عُلِمَ أن كل ما هو نورٌ فهو مُنَوِّرٌ لغيره، فهما متلازمان.
وكان بعض العارفين يرى أن النور هو اسم الله الأعظم. وفي( لسان العرب ) لابن منظور:" في أسماء الله تعالى النُّورُ. قال ابن الأثير: هو الذي يبصِر بنوره ذو العَمايَة، ويرشُد بهداه ذو الغِوايَة. وقيل: هو الظاهر، الذي به كلُّ ظهور. والظاهرُ في نفسه، المُظْهِرُ لغيره يسمَّى: نورًا.. قال أبو منصور: والنور من صفات الله عز وجل ".