وإذا كان الإيمان بالغيب هو البرهان على صحة العقيدة، وسلامتها من الخلل ؛ فلا عجب في أن تجد سورة البقرة دائرة حول هذا المقصد العام، ومن مظاهر ذلك أنها ذكرت في مفتتحها تصنيف الناس من خلال عقيدتهم ؛ فهم : إما مؤمنون، أو كافرون، أو منافقون، وهذا تصنيف عقدي في المقام الأول.
وهنا يمكن القول إن ذكر آية المداينة في هذه السورة وتحت مظلة هذه الغاية إنما هو أحد مقومات الحفاظ على العقيدة الصحيحة، وهذا يشير إلى أهمية الشفافية في علاقات الناس المالية، وأثر هذه المعاملات على عقائد الناس.
علاقة الآية بالمقصود الأعظم للسورة :
لاشك أن هذا النوع من المعاملات يشترك فيه أطراف عدة : الدائن، والمدين، والكاتب، والشهود، وهؤلاء جميعا تلحقهم تبعات وتكاليف وقيود لايمكن القيام بحقها إلا إذا وجد باعث ومحرض قوي يدفعهم إلى الالتزام، وأداء ما يطلب منهم.
ولست أرى باعثًا ومحرضاً على التزام ذلك أقوى من تدبر أمر البعث والإيمان به ؛ فصاحب المال مشترياً كان أو بائعاً أو مقرضاً يحتاج إلى شحنة إيمانية ؛ كي يترك ماله فترة من الوقت عند الغير وهو مطمئن النفس.
والذي يأخذ الدَّين يحتاج أيضا إلى الإيمان بالبعث ؛ ليكون حاجزا له عن المماطلة أو الإنكار.
وكذلك الشهود والكاتب : لأنهم وسطاء بين متناكرين في الغالب، والأصل في الشهود أنهم لا يأخذون عوضاً عن شهادتهم ؛ فالذي يدفعهم إلى الشهادة غالباً إيمانهم بالبعث والحساب.
وهكذا اتصلت الآية بالإيمان بالبعث اتصالاً وثيقاً.
كما أن اسم السورة ( البقرة ) وهي حادثة حدثت بين موسى عليه الصلاة والسلام وقومه حين جادلوه في ذبح البقرة وقالوا :( أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) (البقرة: ٦٧)
فكأنهم حين أنكروا الغيب أنكروا ذبح البقرة ؛ إذ لا علاقة _ في نظرهم _ بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل، ولو أنهم آمنوا بالغيب لما سألوا عن ماهيتها، ولونها، وتحديدها.. إلخ.


الصفحة التالية
Icon