وهو أن هذه الآية ذكرت في أطول سورة في القرآن الكريم، فهناك مناسبة بين طول الآية وطول السورة، وبخاصة أنها من آيات الأحكام، ومن سمات هذا الضرب من الآيات التفصيل والإسهاب ؛ حتى لا تكون المعاملات موضع اجتهاد أو أخذ ورد وبخاصة أن الآية تتحدث عن المعاوضات المالية التي هي أصل كثير من النزاعات بين الناس، ولما كانت هذه المعاوضات متنوعة إلى ديون وتجارات، استلزم ذلك الإسهاب ؛ استقصاءً لهذه الحالات المشار إليها.
وزاد من ذلك : أن الآية سلكت في معالجتها سبيل درء الشبهات، وسد الذرائع المؤدية إلى المنازعات، وأخذ الحيطة، وذلك كله يستلزم الإسهاب والإطناب في العرض ؛ ليواكب زخم هذه الأساليب العلاجية التي حوتها الآية.
***
تاسعاً: آية المداينة بين التثقيف والتكليف
إن القرآن الكريم - والذي تمثل آية المداينة لبنة من لبناته- معنيٌ بتثبيت الحكم، كما أنه معنيٌ في الوقت نفسه بتهيئة القلوب لتقبّل هذا الحكم ؛ ولتقتنع به، وتقبل عليه إقبال الشغوف، وليس من البلاغة بيان الحكم دون تهيئة النفوس لاستقباله، كما أنه ليس من البلاغة أيضاً الكشف عن المعاني الوجدانية الآسرة للقلوب الباعثة على الأريحية دون تحديد المراد.
والمقصود من الكلام أن البلاغة العالية هي التي تمزج بين الرافدين : بين أحكام الشريعة الضابطة لحركة الحياة، والمعاني الروحية الباعثة على النشاط للتمسك بهذه الأحكام.
( من هنا كان المعنى القرآني مزيجا متفاعلاً من عنصرين : التشريعي - وينطوي فيه العَقَدي - والروحي ؛ الماثل في غرس القناعة الفكرية، والطمأنينة الوجدانية بهذا العنصر التشريعي في قلب المكلَّف.
ولا تكاد تجد معنى قرآنيا إلا وهو وليد التفاعل بين هذين العنصرين، على اختلاف في مقادير هذين العنصرين ودرجات ظهورها.


الصفحة التالية
Icon