وقد يظن أن ثم ما هو مشغلة الفقهاء وحدهم، وهو المسمى بآيات الأحكام، ولا سبيل للبلاغي إلى تدبره إذ إن مشغلة البلاغي عندهم المعاني الروحية، وأن ثمة ما هو مشغلة البلاغيين دون الفقهاء كالقصص القرآني.
وذلك نهج خاطئ، إن لم يكن آثما ؛ فما من آية إلا قد تَشكَّل معناها من الشرع والروح معاً، ومنزلها من السياق الكلي للسورة هو الذي يبرز عنصرا على آخر، وبناؤها اللغوي هو الذي يمنح عنصرا جلاءً وقرباً إلى الإدراك دون الآخر. ( ١٣ )
وفي جميع الأحوال يظل ارتباط الحكم بالمحرضات على قبوله، وارتباط الشرع بالدوافع المؤثرة في قبوله، يظل هذا الارتباط قائماً لا ينفك في جميع آي القرآن ؛ يقول المرحوم سيد قطب في قيام هذا الرابط في آية المداينة : ارتباط التشريع بالوجدان الديني في الآية ارتباط لطيف المدخل، عميق الإيحاء، قوي التأثير، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية، وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد، وموقف الشهود والكتاب، فينفي هذه المؤثرات كلها، ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها.
إن الإعجاز هو صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة آيات الإيحاء، والتوجيه، بل هو أوضح وأقوى ؛ لأن الغرض هنا دقيق يُحرِّفه لفظ واحد، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ ) ( ١٤)
وعلى سبيل المثال : لقد صُدّرت الآية بذلك النداء :( يا أيها الذين آمنوا ) وفي خصائص نظمه واصطفاء عناصره على هذا النحو دلالة على إلزامهم بما دخلوا فيه طوعاً من إيمان وتسليم، وإشارة إلى أن إيمانهم لا يزال فعلاً، وأنهم ما يزال فيهم بقية من غفلة، لكن أيضا فيهم تشريف لهم بتعريفهم بخير صفاتهم، وتشريفهم بمباشرة الحق _ عز وجل _ نداءهم دون قوله :- قل يا أيها الذين آمنوا -، وهذا التكليف والتذكير والتشريف المحتضن في رحم النظم، متناسق أيما تناسق مع ما هو آت من بعد ) (١٥)


الصفحة التالية
Icon