هذا نمط واحد يحمل التشريف والتكريم، كما يحمل التذكير بالغفلة، والحث على نقضها، وهكذا تفاعلَ في العنصر الواحد عاملان من عوامل الحض والتهيئة لاستقبال الأوامر والنواهي القادمة في :( فاكتبوه _ وليكتب _ واستشهدوا.. إلخ )
ثم تعاود الآية ذكر ما يهيج النفوس وُيزجي أوارها، فيقال للكُتّاب :( كما علمه الله )، هذا عنصر من عناصر التثقيف المحرضة على قبول الأمر...
ثم يؤتى بالتكليف فيقال :( فليكتب وليملل الذي عليه الحق ) ثم يأتي تثقيف آخر، أو محرض آخر فيقال :( وليتق الله ربه ) فيتبعه تكليف وهو ( ولا يبخس منه شيئا ).... وهكذا تظل الآية تراوح وتمازج بين التكليف والتثقيف على نحو بارز ؛ لتُقبل النفوس على التكاليف إقبال رغبةٍ وشغف، وتلذذ، فترى فيما كلفت به من شرائع لذة ومتعة واسترواح...
بل إن هذا المزج لا تحس معه أي نفس مرهفة بأي شيء من التباين والتفاضل، على الرغم مما قد يظن أن البيان التكليفي يقتضي غير ما يقتضيه البيان التثقيفي، ألفاظاً وتوقيعاً صوتياً... إلخ ( ١٦ )
وهذا المزج ( الذي لا يكاد يفصل بعضه عن بعض ) بين الخطاب التكليفي والخطاب التثقيفي يشير إلى حرص القرآن الكريم على إحاطة التكاليف بالبواعث التي تضعها موضع التنفيذ السريع، وذلك ضرب من ضروب علاقات المعاني، وهي لب البلاغة ومعدنها، والذهب الإبريز الذي يتطلب البحث عنه والتعب من أجله ؛ يقول الإمام عبد القاهر :( واعلم أن غرضي من هذا الكلام الذي
ابتدأته، والأساس الذي وضعته، أن أتوصل إلى بيان أمر المعاني، كيف تختلف وتتفق، ومن أين تجتمع وتفترق، وأفصل أجناسها وأنواعها، وأتتبع خاصها و مشاعها... إلخ ) (١٧ )
أضف إلى ذلك أن قمة الجمال اللغوي أن يأتي الكلام موافقاً لطبيعة النفس البشرية، ومنسجماً مع مداخلها، ومخارجها.