وإذا كان الأصل في المعاملات الإباحة مالم يرد الدليل بخلاف ذلك، فإن التعامل بالدين، وهو مباح شرعاً أحيط بسياج من المحاذير ( أوامر، ونواهٍ، وشروط ) التي تحدُّ من شيوع هذا التعامل ؛ لأن طريق الدين وعر، صعب، والزلل فيه كثير، فقد يؤدي إلى الربا، وقد يؤدي إلى الخلاف والشقاق بين الناس.
إن القيود لا توضع إلا عند استشعار الخطر، كما توضع علامات المرور في الطريق لتشير إلى الحذر، ولما كانت الديون تترك في النفوس حرجاً، وتؤدي إلى ما يغضب الله تعالى _ من رباً ونحوه _ أحيط بالشرط، والأمر، والنهي.
وكثرة هذه القيود إعلاء من شأن التحذير ؛ لتضييق هذه المعاملة من جهة، ولأخذ الحذر عند التعامل بها من جهة أخرى، حتى الأساليب المساعدة في الآية مثل أسلوب النداء _ مثلاً _ يتواءم مع هذا التحذير ؛ لأن النداء ضرب من التنبيه.
وأسلوب الاستثناء : إنما هو انتقاء جزء من كل ؛ إذ ليس كل المعاملات سواء.
وأسلوب التفضيل : يصرِّح بهذا المعنى أيضاً ؛ لأن هناك معاملات بديلة للديون أولى بالاتباع، كالبيع الناجز ونحو ذلك.
فإذا جئنا إلى الأدوات نلحظ ما يلي :
في حروف الجر شاع حرف الباء ؛ حيث ذكر خمس مرات، ثم ( من ) حيث ذكر أربع مرات.
وحرف الباء يدور بين معاني الإلصاق، والاستعانة، والزيادة، وهي معانٍ لا تبعد كثيرا عن الديون ؛ فالمَدِين ملصق بالدائن، مستعين به ؛ لأخذ بعض الزيادة من ماله، أو هو ملصق بالأرض من الفقر، مستعين بغيره رغبة في زيادة ماله، والإلصاق هو أشهر معاني الباء، ( وقيل : إنه لا يفارقها، ويعني تعلق أحد المعنيين بالآخر ) ( ٣٨ ).
فالتعلق هو أبرز ما يميز الباء، والتعلق أيضاً هو أبرز ما يميز الديون.
أما ( مِنْ ) : فمن معانيها التبعيض، وابتداء الغاية، والتقليل، والبدل، بل إنها تأتي أيضا بمعنى الباء، كما في قوله تعالى :" ينظرون من طرف خفي " أي : به ) ( ٣٩ )


الصفحة التالية
Icon