وأمر آخر، وهو أنه لو قيل : فاكتبوه، وأجلوا أجلاً، لَظُنَّ أن كتابة الدين مقصود بها المقدار فقط، ولظُن أيضاً إمكانية خلوّ العقد من تحديد الأجل، وهذا غير مراد - كما أفهم - لأن القصد إلى تضمين العقد موعد السداد، فهو جزء من العقد، وبند من بنوده، رتبت الكتابة عليه، وجاءت بعده لتشمله.
بلاغة التعبير عن كتابة الديون
جاء الأمر بكتابة الدين في صورتين :
الأولى : في قوله تعالى :( إذا تدينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ).
والأخرى في قوله تعالى :( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ).
وهذان الجزآن قد جاءا بصيغة الأمر، وأول ما يلفت الانتباه هو اختلاف الصيغة، فالأمر بالكتابة عامة اصطُفي له صيغة " افعل "، وتعيين الكاتب اصطُفي له صيغة "ليفعل".
( وإذا تأملنا صورة الأمر " ليفعل "، وصورته " افعل " ألفينا أن دلالة " ليفعل " على حقيقة معنى الأمر أكثر من دلالتها على غيرها، بينما دلالة " افعل " على غير حقيقة معنى الأمر كثيرة جداً، بل متنوعة الدلالة، وفي هذا ما قد يُعرب عن أن صيغة " ليفعل " لمَّا كانت هي الأصل في الوضع الأول وأقلّ استعمالاً كانت أليط بحقيقة معنى الأمر، بينما صيغة " افعل " أقدر على أن تتسع لدلالات عديدة على لاحب مساقات متباينة - مثل : الإباحة أو الندب، أو نحو ذلك.( ٦٤ )
فكان فقه الدلالة البيانية لصيغة " افعل " أصعب مراساً، وأدعى إلى طول مراجعة، ونفاذ بصيرة في أغوار السياق المقالي والمقامي، فإن هذه المعاني السياقية لتلك الصيغة كثيراً ما تتداخل، أو يستدعي بعضها بعضاً، مما يُدخل المرء في إشكالية الوعي بدقائق الوجوه الدلالية للصيغة. ( ٦٥)
ومن هنا يقف البحث أمام الأمر الأول :
(فاكتبوه)
وأول ما يلفت الانتباه في هذا التركيب ضمير المفرد ( الهاء ) الغائبة، فهل تعود إلى الدين، أم إلى الأجل ؟
كلا الأمرين يجوز، وقد تكون الكتابة للدين والأجل معاً، وهنا يطرح سؤال آخر.


الصفحة التالية
Icon