لقد أحسن الشافعي - رحمه الله - حين قال : إني أحب الكتاب والشهود وذكر مبررات وعللاً لا تجعل من الكتابة أمراً مندوباً، بل تجعله مفروضاً، وبخاصة أن هذا الندب والإرشاد جاء في تراكيب صارمة من الأمر والنهي والشرط.
فالسياق الداخلي للآية، وبناء العبارة، واصطفاء الألفاظ، يحمل من الصرامة، والشدة ما يميل بالكفة تجاه الوجوب، ولذلك أرى أن الرأي رأي الطبري ؛ حيث يقول :
( الصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل. ، و أَمْرُ الله فرضٌ لازم إلا أن تقوم الحجة بأنه إرشاد وندب، ولا دلالة تدل على أن أمره - جل ثناؤه - باكتتاب الكتب في ذلك ندب وإرشاد.
فذلك فرض ٌعليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كان حرجاً بتضييعه.
ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله :( فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته ) ؛ لأن ذلك إنما أذن الله به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب ؛ فأما والكتاب، والكاتب موجودان ؛ فالفرض إذا كان الدين إلى أجل مسمى ما أمر الله تعالى ذكره - في قوله :( فاكتبوه ).
وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه، وحكم المنسوخ في حالٍ واحدة ؛ فأما ما كان أحدهما غير نافٍ حكمَ الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء.
ولو وجب أن يكون قوله :( وإن كنتم على سفر ) ناسخاً قوله :( إذا تداينتم ) لوجب أن يكون قوله :( وإن كنتم مرضى ) ناسخاٍ الوضوء بالماء في الحضر عند وجود الماء فيه، وفي السفر الذي فرضه الله عز وجل، لقوله ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة )، وأن يكون قوله في كفارة الظهار :( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين )، ناسخاً قوله :( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ).


الصفحة التالية
Icon