وأما قوله :( فإن أمن بعضكم بعضاً )، فهي رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين، وحالة الائتمان حالة سالمة من تطرق التناكر والخصام ؛ لأن الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى، فأوجب عليهم التوثق في مقامات المشاحنة ؛ لئلا يتساهلوا ابتداءً، ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة، ويظهر لي أن في الوجوب نفياً للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب ؛ حتى لا يعدُّ المدين هذا من سوء الظن به ؛ فإنّ في القوانين معذرةً للمتعاملين أما قول ابن عطية بأن الصحيح عدم الوجوب ؛ لأن للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع، فكيف يجب عليه أن يكتبه ؟ ‍‍‍‍‍‍‍ ‍ وإنما هو ندب للاحتياط.
فهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي، ولكنه مردود بأن مقام التوثق غير مقام التورع.
ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق ؛ حتى لا يتساهلوا ثم يندموا، وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضاً. كما أن من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثق دائنه إذا علم أنه بأمر من الله تعالى، ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام ) ( ٧١ )
( إن المبدأ العام الذي يريد القرآن الكريم تقريره أن الكتابة أمر مفروض بالنص غير متروك للاختيار ) ( ٧٢ )
ومن الأسباب أيضًا أن قوله :( فإن أمن بعضكم بعضا ) لمْ تُرتَّبْ على التداين، وإنما رتبت على الرهن، وعطفت عليه بالفاء، والفاء دليل الترتيب على السابق وليس على الأسبق ؛ إذ لا
دليل على نقله إلى العموم.
ومنها أيضا : أن كتابة الدين أصل في التداين حتى أثناء السفر ؛ لأن الآية تقول :( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً ) ؛ فالأصل أن يُبحث عن كاتب، وهذا يؤكد أن قوله تعالى :( فإن أمن بعضكم بعضاً ) ليس مرتبطاً بالتداين العام، وإنما هو مرتبط بعدم وجود الكاتب، وكأن المعنى، : وإن كنتم على سفر فابحثوا عن كاتب واكتبوا الدين، فإن عُدم الكاتب لضيق الوقت فرهان مقبوضة


الصفحة التالية
Icon