ومنها: أن الأمن لو كان مرتبطاً بالتداين العام لوُضع أولاً ؛ إذ هو الأصل بين المسلمين، ولكان قيل : إذا تداينتم بدين وأمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته، وإلا فاكتبوا الدين....
وهكذا.. لكن سياق الآية وبناء جملها يميل بالمعنى إلى ارتباط الكتابة بالدين ارتباط تلازم، في الوقت الذي يشير فيه صراحةً إلى ارتباط جملة الأمن، وأداء الأمانة بحالة السفر، وخلط الأمرين دعوى بلا بينة واضحة.
ومنها : أن تصدير جملة ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) بأداة الشرط ( إن )، وهي تفيد الندرة والشك، ولو ارتبط هذا بالتداين العام ؛ بمعنى : أن المسلمين يقل الأمن بينهم عند التداين، لكان - ذمّا وهجاءً.
أما ربط جملة :( فإن أمن بعضكم بعضاً ) بالسفر، وهو مظنة ضياع المال، وحدوث المخاطر يجعل المعنى متساوقاً مع سياق الآية، ولو ربطنا هذا المعنى بالمفهوم العام من الآية لحدث خلاف وتناقض.
كيف ؟
إن الآية نفسها تشير إلى أمن المؤمنين بعضهم بعضاً ؛ إذ إنها تتحدث عن البيع بالأجل أو بالتقسيط أو القرض، وفي كل ذلك يعطي المؤمن أخاه السلعة أو المال ولا يأخذ شيئا، ... نعم : لا يأخذ إلا وعداً مكتوباً بالسداد، وهذا دليل الأمن، فإذا كان جوهر الآية يدفع القارئ دفعاً إلى وجود الأمن بين المسلمين، فكيف ينسجم هذا مع جملة ( فإن أمن بعضكم بعضاً ) ؟ !!
إذاً فلا بد أن يتعين الأمر حالة السفر، والآية تنطق بهذا ؛ حيث تقول :( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) (البقرة: ٢٨٣)
فلِمَ نعمم والآية تنطق بالتخصيص، والمنطوق مقدم على المفهوم عند العلماء، والسفر مظنة ضياع المال، وهكذا ضياع السلعة، ومن هنا كان الإلحاح على الكتابة أشد، لكن أن عدم الكاتب، وضاق الوقت فواحدة من أمرين : إما عدم التداين، وإما الرهن.


الصفحة التالية
Icon