والذي أميل إليه : أن الكاف هنا ليست للتعليل، حتى وإن توقف ما قبلها على وجود ما بعدها ؛ لأن السياق ليس سياق منٍّ وتفضُّل على الكاتب، بل سياق أمر ونهي، بأن يكتب كتابةً موثقة ضامنة للحقوق، خالية من الثغرات ؛ فالأولى في هذا السياق تذكيره بهذه الضوابط، وتلك الشروط التي تعلَّمها ؛ حتى يجعلها في ذهنه عند الكتابة، ثم يجعل ما يكتبه مطابقاً ومشابهاً لما تعلمه.
وعلى هذا، ففي الجملة تشبيه، وهذه أركانه :
المشبه : الكتابة المأمور بها.
المشبه به : الكتابة التي علمه الله إياها.
والأداة : الكاف.
ووجه الشبه : الدقة والعدل، وذكرُ اسم الذي عليه الحق دون غيره، وتحديدُ قيمة الدين، وموعد أخذه ومكانه وزمانه، ثم تحديد صاحب الحق، وموعد السداد، وزمانه ومكانه، وغير ذلك مما تعلمه من أمور تحفظ الحقوق لأصحابها.
وجمال هذه الصورة ينبع من عدة أشياء :
منها : التذكير بنعمة الله تعالى على الكاتب ؛ حيث جعل ذلك جزءاً من الصورة، ومن
خطوطها الأساسية، ليكون ذلك دافعاً له، ومحرضاً، وحاجزاً عن الميل إلى شهوات
الدنيا، بالميل إلى طرف على حساب طرفٍ آخر.
ومنها : الإشارة إلى الدقة العالية، والالتزام الشديد بضوابط الكتابة ؛ لأنها منسوبة إلى الله تعالى
( كما علمه الله ).
ومنها : حثُّ الكاتب على إخراج هذه الوثيقة في أبهى صورة ؛ لأن الله تعالى كتب الإحسان
على كل شيء.
ومنها : الترهيب من مخالفة الأصول، والقواعد الضابطة للحقوق، وذلك من خلال استعمال
اسم ( الله ) تعالى، الباعث على الرهبة ؛ ولذلك لم يقل : كما علمه ربه.
ومنها : الإشارة إلى أن ضبط هذه المعاملات لا يكون إلا بما شرعه الله تعالى وحدده، وأن
العدول عما أنزله الله تعالى يحمل الفساد، والإفساد للبشرية جميعاً.
كما أن من خيوط هذه الصورة التشبيهية تنكير كلمة " كاتب " لتعميم الحكم على كل
من تصدى لهذا الأمر، حتى وإن دان بغير الإسلام.


الصفحة التالية
Icon