٦ - أن الآية تحدثت من قبل عن نهي الكاتب عن الإباء، فقالت"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"والكتابة والشهادة جناحان للتوثيق، وضبط الحقوق، وقد جاء عن ابن جريج أنه سأل عطاء : ما شأنه إذا دعي أن يكتب وجب عليه ألا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لم يجب إن شاء ؟
قال: كذلك يجب على الكاتب أن يجيب، ولا يجب على الشاهد أن يشهد، فالشهداء كثير"( ١٢٦).
فقوله :" الشهداء كثير " : محمول كما لا يخفى على التحمل، وليس الأداء.
المجاز المترتب على تقدير المحذوف :
إذا كان الأمر متعلقاً بتحمل الشهادة، فكيف يجوز إطلاق اسم الشهداء عليهم من قبل ؟
لقد ذهب الطبري إلى عدم جواز هذا فقال :" غير جائز أن يلزمهم اسم الشهداء، إلا وقد استشهدوا قبل ذلك، فشهدوا على ما ألزمهم شهادتهم عليه اسم الشهداء، فأما قبل أن يستشهدوا على شيء فغير جائز أن يقال لهم شهداء ؛ لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم، ولما يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له : شاهد، بمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلح لأن يشهد.
وعليه كان معلوماً أن المعنيّ بقوله :" ولا يأب الشهداء " مَنْ وصفنا صفته ممن قد شهد فدُعي إلى القيام بها ؛ لأن الذي لم يشهد غير مستحق اسم شهيد، ولا شاهد ". ( ١٢٧)
والأمر - كما أرى - أبسط من كل هذا ؛ لأن من الأصول المعتمدة في علم البلاغة أن الشيء يجوز تسميته باسم ما يؤول إليه على سبيل المجاز المرسل، الذي علاقته اعتبار ما سيكون ؛ مثل قوله تعالى :( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) (يوسف: ٣٦).
وهو ما عليه الأمر هنا. ( ١٢٨ ).
وعليه، يجوز تسمية الرجال باسم الشهداء ؛ لأنهم سيصيرون شهداء، وفي ذلك نكتة، وهي أنهم بمجرد دعوتهم إليها فقد تعينت عليهم الإجابة فصاروا شهداء. ( ١٢٩)