فإن الهدف الأسمى من كل هذه الضوابط سلامة الصدر بإحقاق الحق، وذلك من خلال الكتابة، والشهادة، فكأن الكتابة وحدها لاتكفي، والشهادة وحدها لا تكفي، فلا بد من اجتماع الأمرين، حتى نصل إلى نفي الريب :" وأدنى ألا ترتابوا " فالعقول تنسى، وقد تغضب فتكتم، وقد تمالئ فتجور، وما يمنعها من كل ذلك إلا الكتابة والشهادة.
قوله تعالي (وأدني ألا ترتابوا.. )
----------------
والدنو هو القرب : من دنا يدنو ؛أي أقرب إلي عدم الارتياب، [والارتياب شك مع تهمه، فإنك
تقول إني مرتاب في فلان، إذا شككت في أمره، واتهمته، والارتياب أمر قلبي، ومع ذلك استخدم معه لفظ "أدني "، وهو مخصوص بالقرب المكاني؛لأنه:" لا يكون إلا في المسافة بين شيئين " ] (١٥٤ ).
وفي ذلك إخراج للمعنوي، وهو الارتياب في صورة المحسوس ؛ لأن هذا المعنوي يترك أثاره علي الحواس من غضب ونحو ذلك.
ويبقي السؤال :
هل بعد كل هذه الضوابط لا تنتفي الريبة انتفاءً كاملاً ؛ فيقال "وأدني ألا ترتابوا "، ولا يقال وانفي للريبة ؟
إن هذا يعطي معنيً مهماً، وهو أنه بالرغم من كل هذه الضمانات إلا أن نفس الإنسان تظل في قلق وتوجس من ضياع هذا المال؛فهي بعد كل هذا تقترب من الضمان، لكنها لا تحصل علي الضمان التام
ولما كان قائل هذا الكلام هو خالق تلك النفس، كان لابد من فهم طبيعة هذه النفوس وعلاقاتها بالمال، فهي علاقة ذات خصوصية شديدة، بحيث لا تطمئن إلا بوجود المال في حوزتها، أما إذا كان في حوزة الغير فمهما أعطيت من ضمانات ؛ فإنها لا تنفك عن الريب، وخوف الضياع.
حذف المفضل عليه :
حُذف المفضل عليه في الجمل الثلاث ؛ إذ التقدير :
ذلكم أقسط عند الله من عدم الكتابة.
وأقوم للشهادة من عدم التحيّز في الشهود.
وأدنى إلى عدم الريبة من ترك كل هذا.
[وحسن حذف المفضل عليه لكون أفعل الذي للتفضيل وقع خبراً، وتقديره : الكتب أقسط، وأقوم، وأدنى من عدم الكتب ]( ١٥٥).