المبحث الثاني : موقف سلف الأمة ممن يثيرون الشبه والمطاعن حول القرآن
هذا المبحث في غاية من الأهمية ؛ لأننا قوم نتبع على بصيرة ولا نبتدع، وقد أُمرنا بالاقتداء بالسلف الصالح، الذين هم خير القرون عند الله، وقضية الحرب على القرآن ليست وليدة اليوم، بل هي حرب قديمة مستمرة وستستمر، فهذه تجارب يجب أن نستفيد منها، حتى نبدأ من حيث انتهوا، فنستفيد علما ووقتا.
فنقول : ينقسم موقف السلف مع من يثيرون الشبه حول القرآن إلى قسمين بحسب حال الشخص :
أولاً : إن كان طالبَ حق وسؤالُه سؤال استرشاد، ولكنه قد أشكل عليه، فإنهم معه على النحو التالي :
١- تعليمه التسليم والانقياد للنص :
كما ورد عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ : مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي
الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ : أَحَرُورِيَّةٌ(١٢٤) أَنْتِ؟ قُلْتُ : لَسْتُ
بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. قَالَتْ : كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ)(١٢٥).
وفي الصحيحين أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ حَدَّثَ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ مِنَّا، وَفِينَا بُشَيْرُ ابْنُ كَعْبٍ فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) « الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ » قَالَ : أَوْ قَالَ :« الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ » فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ : إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ الْحِكْمَةِ، أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ، وَمِنْهُ ضَعْفٌ. قَالَ : فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ، وَقَالَ : أَلَا أَرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) وَتُعَارِضُ فِيهِ. قَالَ : فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ، قَالَ : فَأَعَادَ بُشَيْرٌ، فَغَضِبَ عِمْرَانُ قَالَ : فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ : إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ، إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ)(١٢٦).
٢- تعليمه بالتي هي أحسن، أخذا من قوله تعالى (وأما السائل فلا تنهر( [ الضحى : ١٠]، وقوله تعالى :(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( [النحل : ١٢٥] وقوله :(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ( [العنكبوت : ٤٦]، والمسلم أولى بالإحسان من الكتابي.
وذكر الداوودي في ترجمة الشنبوذي (عن الداني أنه قال : دخل الشنبوذي على عضد الدولة زائرا، فقال له : يا أبا الفرج إن الله تعالى يقول :(يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ( [النحل : ٦٩] ونرى العسل يأكله المحرور فيتأذى به ؛ والله الصادق في قوله، فقال : أصلح الله الملك، إن الله لم يقل : فيه الشفاء للناس. بالألف واللام، الَّذيْنِ يدخلان لاستيفاء الجنس، وإنما ذكره مُنَّكرا، فمعناه فيه شفاء لبعض الناس دون بعض.
قال الداني : والصواب أن الألف واللام في قوله :(للناس( لا يستغرقان الجنس كله، كما لا يستغرقان في قوله :(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم([آل عمران : ١٧٣]وقوله :(فنادته الملائكة([آل عمران : ٣٩]وقوله :(وقالت اليهود عزير ابن الله([التوبة : ٣٠] وشبهه)(١٢٧).
٣- الشدة أحيانا على من لا يخاف عليه النفرة بالشدة، وعنده من العلم ما لا ينبغي معه أن يسأل هذا السؤال ؛ كحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ نَفَرًا كَانُوا جُلُوسًا بِبَابِ النَّبِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا -وفي رواية أنهم تكلموا في القدر- فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ )، فَخَرَجَ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ :« بِهَذَا أُمِرْتُمْ - أَوْ بِهَذَا بُعِثْتُمْ - أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، إِنَّمَا ضَلَّتْ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّكُمْ لَسْتُمْ مِمَّا هَاهُنَا فِي شَيْءٍ، انْظُرُوا الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ، فَاعْمَلُوا بِهِ وَالَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا »(١٢٨).
ثانيا : وأما إن كان السائل يسأل تعنتا، فإن لهم معه طرقا كثيرة :
١- تعليمه السؤال الصحيح : عن عامر بن وائلة، أن ابن الكواء سأل عليا - رضي الله عنه - فقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا ؟ قال : ويلك سل تفقها، ولا تسأل تعنتا(١٢٩).
٢- تأديبه إن كان له عليه قدرة وسلطة : كما فعل عمر - رضي الله عنه - مع صبيغ؛ فعن السائب بن يزيد، أن رجلا قال لعمر - رضي الله عنه - : إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن، فقال عمر : اللهم أمكني منه. فدخل الرجل على عمر يوما وهو لابس ثيابا وعمامة، وعمر يقرأ القرآن، فلما فرغ قام إليه الرجل، فقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا ؟ فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده، ثم قال : ألبسوه ثيابه واحملوه على ؛ قتب، وأبلغوا به حيَّه، ثم ليقم خطيبا فليقل : إن صبيغا طلب العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم(١٣٠).
٣- هَجْره، والتحذير منه، وعدم مناظرته :
وهذا لثلاثة أسباب(١٣١) :
أ- لتأديبه : كما فعل عمر - رضي الله عنه - مع صبيغ.
ب-لأن صاحب الشبهة إن كان مغموسا في باطله، ويطلب نصرته، أو يريد التشكيك في الحق، فإنه لا ينفع معه الجدال :
قال تعالى :(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( [الأنعام : ٦٨].
عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : تَلَا رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ :(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ( قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ( :« فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»(١٣٢).
ج-إذا كان الراد على الشبه لا يأمن على نفسه من التأثر :
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ : لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، أَوْ يَلْبِسُوا عَلَيْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ.
وعَنْ أَيُّوبَ قَالَ : رَآنِي سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ جَلَسْتُ إِلَى طَلْقِ بنِ حَبِيبٍ فَقَالَ لِي : أَلَمْ أَرَكَ جَلَسْتَ إِلَى طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ لَا تُجَالِسَنَّهُ.
وعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ، فَلَا تَقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامَ.
وعَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ قَالَ لِأَيُّوبَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَسْأَلُكَ عَنْ كَلِمَةٍ، قَالَ : فَوَلَّى وَهُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ وَلَا نِصْفَ كَلِمَةٍ، وَأَشَارَ لَنَا سَعِيدٌ بِخِنْصِرِهِ الْيُمْنَى)(١٣٣).
٤- مناظرته والتصدي له إن انتشرت بدعته وراجت، أو كان ذا سلطان :
كما حصل مع الإمام أحمد وابن أبي دؤاد في فتنة خلق القرآن، وكما حصل مع عبدالعزيز الكناني مع بشر المريسي، وحكيت وقائع هذه المناظرة في كتاب الحيدة، وهذه سنة إبراهيمية شرعية(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( [البقرة : ٢٥٨].
٥- تأليف الكتب التي تنقض بدعته وشبهته، وتبين زيف كلامه.
٦- إقامة حد الله عليه، إن كان تحت ولاية المسلمين.
٧- إن كان الطاعن ذا شوكة فالحرب ؛ قال ابن القيم :(ومن بعض حقوق الله على عباده، رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه، ومجاهدتهم بالحجة والبيان والسيف والسنان والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الايمان، وكان انتهي إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين، فلم يصادف عنده ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه يداويه، فسطا به ضربا وقال : هذا هو الجواب. فقال الكافر : صدق أصحابنا في قولهم، إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب، فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فشمر المجيب ساعد العزم، ونهض على ساق الجد، وقام لله قيام مستعين
به، مفوض إليه، متكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال : إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف، وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة، وإزاحة للعذر، ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة، والسيف إنما جاء منفذا للحجة، مقوما للمعاند، وحدا للجاحد قال تعالى :(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز([الحديد : ٢٥] فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي، ونفذه السيف الماضي :
فََمَا هُوَ إلاَّ الوَّحْيُ أو حَدُّ مُرْهَفٍ(١٣٤) يُقيمُ ظَبَاهُ (١٣٥)أخْدَعَيْ(١٣٦) كل مائلِ
فهذا شفاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عالمٍ وهذا دواءُ الدَّاءِ مَنْ كُلِّ جاهِلِ ) (١٣٧)
--------------------------------------------------------------------------------
(١٢٤) الحرورية : الْحَرُورِيّ مَنْسُوب إِلَى حَرُورَاء بِفَتْحِ الْحَاء وَضَمّ الرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبَعْد الْوَاو السَّاكِنَة رَاءٌ أَيْضًا، بَلْدَة عَلَى مِيلَيْنِ مِنْ الْكُوفَة، وَالْأَشْهَر أَنَّهَا بِالْمَدِّ، قَالَ الْمُبَرِّد : النِّسْبَة إِلَيْهَا حَرُورَاوِيّ، وَكَذَا كُلّ مَا كَانَ فِي آخِره أَلِف تَأْنِيث مَمْدُو