المطلب السادس: جوابه الحاضر على أسئلة المشككين :
لقد كان من أدلة صدق النبي ( ﷺ ) جوابه الحاضر على الأسئلة المفاجئة التي كان يواجهه بها المشككون في صدقه، ولا يتأتى ذلك لشخص كاذب مهما أوتي من فطنة، بل لا يصدر إلا عن نبي مؤيد بوحي من السماء، فمن أمثلة ذلك.
عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ )، وَهْوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ، فَأَتَى النَّبِيَّ (، فَقَالَ : إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ؛ فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ ؟... الحديث السابق )(٣٠١).
وعن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) قَالَ : كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا فَقَالَ : لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلَا تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) :« إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي ». فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : جِئْتُ أَسْأَلُكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) :« أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ ؟ » قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ. فَنَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) بِعُودٍ مَعَهُ، فَقَالَ :« سَلْ ». فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) :« هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ ». قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً ؟ قَالَ :« فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ ». قَالَ الْيَهُودِيُّ : فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ :« زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ ». قَالَ : فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قَالَ :« يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا ». قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ ؟ قَالَ :« مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ». قَالَ : صَدَقْتَ. قَالَ : وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ. قَالَ: « يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ ؟». قَالَ : أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ. قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ الْوَلَدِ؟، قَالَ :« مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ ». قَالَ الْيَهُودِيُّ : لَقَدْ صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ. ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) :« لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ، وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِيَ اللَّهُ بِهِ)(٣٠٢).
عن ابْنِ عَبَّاسٍ ( قال: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيَّ اللَّهِ ( يَوْمًا، فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ، لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ قَالَ :« سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلَام - عَلَى بَنِيهِ، لَئِنْ حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الْإِسْلَامِ ». قَالُوا : فَذَلِكَ لَكَ. قَالَ :« فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ». قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ؛أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ كَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ فِي النَّوْمِ، وَمَنْ وَلِيُّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ؟ قَالَ :« فَعَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أَنَا أَخْبَرْتُكُمْ لَتُتَابِعُنِّي». قَالَ : فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ. قَالَ: « فَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَام - مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، وَطَالَ سَقَمُهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانَ الْإِبِلِ وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا ؟ قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ :« اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ، وَأَنَّ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَأَيُّهُمَا عَلَا كَانَ لَهُ الْوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ؛ إِنْ عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ عَلَى مَاءِ الْمَرْأَةِ كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِنْ عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ عَلَى مَاءِ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ ؟ ». قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: « اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ، فَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ». قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ :« اللَّهُمَّ اشْهَدْ ». قَالُوا : وَأَنْتَ الْآنَ فَحَدِّثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ ؟ قَالَ :« فَإِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَام - وَلَمْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ ». قَالُوا : فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ ؟ لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَتَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ. قَالَ :« فَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تُصَدِّقُوهُ ». قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا. قَالَ : فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ( كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( فَعِنْدَ ذَلِكَ بَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ )(٣٠٣).
وفي وراية عن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ : أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ )، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَنْبَأْتَنَا بِهِنَّ عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إِسْرَائِيلُ عَلَى بَنِيهِ إِذْ قَالُوا : اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ. قَالَ :« هَاتُوا ». قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ ؟ قَالَ :« تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ». قَالُوا : أَخْبِرْنَا كَيْفَ تُؤَنِّثُ الْمَرْأَةُ وَكَيْفَ تُذْكِرُ؟ قَالَ: « يَلْتَقِي الْمَاءَانِ ؛ فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ آنَثَتْ». قَالُوا : أَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ :« كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا أَلْبَانَ الْإِبِلَِ فَحَرَّمَ لُحُومَهَا ». قَالُوا : صَدَقْتَ، قَالُوا : أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ: «مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، بِيَدِهِ أَوْ فِي يَدِهِ مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ، يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ ». قَالُوا : فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ ؟ قَالَ :« صَوْتُهُ». قَالُوا : صَدَقْتَ، إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الَّتِي نُبَايِعُكَ إِنْ أَخْبَرْتَنَا بِهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبكَ؟ قَالَ :« جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام ». قَالُوا : جِبْرِيلُ ذَاكَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَالْعَذَابِ عَدُوُّنَا، لَوْ قُلْتَ مِيكَائِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالنَّبَاتِ وَالْقَطْرِ لَكَانَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ... إِلَى آخِرِ الْآيَةَ ( (٣٠٤).
فلو كان النبي ( ﷺ ) رجلا كاذبا- وحاشاه -، هل يغامر هذه المغامرة، ويرضى بهذا الاختبار العلني من علماء وأحبار، وهو لا يعرف ما هي الأسئلة أو إجابتها، ويقول (سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ)؟! لو كان يأخذ من أساطير الأولين، أليس المفترض أنه يقول: انتظروني حتى أراجع مراجعي أو مشايخي، أم أنه كان مطمئنا إلى صدق نفسه، واثقا بمن أرسله وأنه لا يخذله أبدا، ومع أنهم يسألونه في علوم لم يدرسها، ولا يعرفها قومه، إلا أنه كان يجيب عليها بكل دقة، والعجب أن هذا الأسئلة ليست في علم واحد، بل هي في عدة علوم، فبعضها طبية، وبعضها غيبية لا يمكن لأحد أن يطلع عليها إلا بوحي، أليس في هذا أوضح دليل على صدق رسالته؟.
--------------------------------------------------------------------------------
(٣٠١) أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، باب من كان عدوا لجبريل، رقم : ٤٢١٠).
(٣٠٢) أخرجه مسلم (كتاب الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة، رقم : ٣١٥).
(٣٠٣) أخرجه الإمام أحمد (٢٥١٠) وهو حسن، وصححه الشيخ أحمد شاكر برقم : ٢٥١٤.
(٣٠٤) أخرجه الإمام أحمد (٢٤٧٩)، وصححه أحمد شاكر رقم : ٢٤٨٣.