المطلب الثامن : استعداده للملاعنة والمباهلة على من خالفه، غير وجل ولا خائف أن يحيق به شيء(٣١٢):
المباهلة هي الملاعنة(٣١٣)،
قال في لسان العرب(٣١٤) :(و باهَلَ القومُ بعضُهم بعضاً و تَبَاهلوا و ابتهلوا: تَلاَعنوا، و المُباهلة: المُلاَعَنَة ؛ ويقال: باهَلْت فلاناً أَي لاعنته، ومعنى المباهلة : أَن يجتمع القوم إِذا اختلفوا في شيء فيقولوا : لَعْنَةُ الله على الظالم منا، وفي حديث ابن عباس: من شاء باهَلْته أَن الحَقَّ معي ).
قال ابن حجر -رحمه الله- في سرده لفوائد حديث حذيفة القادم :(وَفِيهَا مَشْرُوعِيَّة مُبَاهَلَة الْمُخَالِف إِذَا أَصَرَّ بَعْد ظُهُور الْحُجَّة، وَقَدْ دَعَا اِبْن عَبَّاس إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ الْأَوْزَاعِيُّ، وَوَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاء، وَمِمَّا عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ مَنْ بَاهَلَ وَكَانَ مُبْطِلًا لَا تَمْضِي عَلَيْهِ سَنَة مِنْ يَوْم الْمُبَاهَلَة، وَوَقَعَ لِي ذَلِكَ مَعَ شَخْص كَانَ يَتَعَصَّب لِبَعْضِ الْمَلَاحِدَة فَلَمْ يَقُمْ بَعْدهَا غَيْر شَهْرَيْنِ )(٣١٥).
ودلالة هذا المطلب على النبوة من وجهين :
١- ثقة النبي ( ﷺ ) الكاملة في دينه ومن أرسله جل وعلا، إذ من كان في قلبه أدنى شك في معتقده لا يمكن أن يقدم على مثل هذا المهلكة إلا أن يعتقد اتقادا جازما في صدق ما يقول.
٢- نكوص النصارى عن المباهلة، مما يدل على تصديقه في قلوبهم ولكنهم يعاندون.
قال تعالى له :( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ
أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ ( [آل عمران : ٦١].
قال ابن كثير -رحمه الله- :(وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران: أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر في هذه السورة ردا عليهم، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره، وقدم على رسول الله ( ﷺ ) وفد نصارى نجران ستون راكبا، وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم؛ وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، وأبو حارثه ابن علقمة وكان أسقفهم صاحب مدارستهم، وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها، وشرفوه وبنوا له الكنائس، وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم، وقد كان يعرف أمر رسول الله ( ﷺ )، وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة، ولكن حمله ذلك على الاستمرار في النصرانية ؛ لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على رسول الله ( ﷺ ) المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، فكلم رسول الله ( ﷺ ) منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبدالمسيح، والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك، فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله ( ﷺ ) :« أسلما ». قالا : قد أسلمنا. قال :« إنكما لم تسلما، فأسلما ». قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال :« كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا، وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير ». قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ( ﷺ ) عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، فلما أتى رسول الله ( ﷺ ) الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم، أن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبدالمسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدًا لنبيُّ مرسلُُ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلفَ دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي ( ﷺ ) فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فإنكم عندنا رضا فدعى أبا عبيدة فقال :« اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه »)(٣١٦).
وفي الصحيحين عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ(٣١٧) قَالَ : فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : لَا تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّنا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا. قَالَا : إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلاَّ أَمِينًا. فَقَالَ :« لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ ». فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) فَقَالَ :« قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ». فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) :« هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ »(٣١٨).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْلٍ : لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( ﷺ ) يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ : فَقَال(َ: « لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ فِي النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ( ﷺ ) لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا » (٣١٩).
فكيف لرجل كاذب أن يقحم نفسه في هذه المزلة، ويرضى أن يكون ملعونا بلعنة الله، مطرودا من رحمتة مستوجبا الهلاك ومستعجلا انتقام الله منه، إلا إن كان صادقا، عالما من صدق نفسه، واثقا بمن أرسله.
--------------------------------------------------------------------------------
(٣١٢) كتاب الداعي إلى الإسلام لكمال الدين الأنباري (ص: ٤٣٧)، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولي، ١٩٨٨، وتثبيت دلائل النبوة للقاضي عبدالجبار (٢/٤٢٦).
(٣١٣) انظر: مختار الصحاح (١/٢٧).
(٣١٤) (١١/٧٢).
(٣١٥) فتح الباري (٧/٦٩٧).
(٣١٦) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (١/٣٦٨)
(٣١٧) يعني بعد أن دعاهما النبي ( ﷺ ) لذلك، كما تبين من سبب النزول والأحاديث الأخرى. وانظر فتح الباري (٧/٦٩٦).
(٣١٨) متفق عليه ( البخاري: كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، رقم : ٤١١٩، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة، رقم : ٢٤٢٠).
(٣١٩) أخرجه الإمام أحمد (٢٢٢٦) بإسناد على شرط البخاري، وأخرج البخاري الجزء الأول من الحديث إلى قوله (لأخذته الملائكة عيانا)(كتاب التفسير، باب قوله (كلا لئن لم ينته لنسفعا..)، رقم: ٤٩٥٨).