المطلب العاشر: انتفاء الغرض الشخصي:
من أدلة صدق النبي ( ﷺ ) عدم إرادة المصلحة الشخصية لنفسه من هذه الدعوة ؛ وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل بقوله :( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ( [ص: ٨٦].
وهذا على خلاف أصحاب المذاهب والأفكار الباطلة والدجالين والكذابين ؛ فإنهم يسعون لتحقيق مصالح شخصية ومآرب ذاتية من جاه ومال ونساء واتباع ومنصب وشهرة وغير ذلك، بينما لا تجد هذا في النبي ( ﷺ )، فهو من أفقر الناس ؛ حيث كان تمر ثلاثة أهلة ولا يوقد في بيت رسول الله ( ﷺ ) نار، وإنما كان طعامه التمر والماء(٣٣٢)، وتأتي الفقيرة إلى بيت رسول الله، فلا تجد عائشة ( إلا تمرة واحدة فتعطيها إياها(٣٣٣)، وأحيانا يأتي الفقير فيرسل النبي ( ﷺ ) إلى بيوته التسعة، فلا يجد فيها شيئا حتى التمرة، ليس في بيوته التسعة إلا الماء(٣٣٤).
ولقد خَيرَّه ربه بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ( فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ فَقَالَ جِبْرِيلُ : إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ. فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، قَالَ : أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا ؟ قَالَ جِبْرِيلُ : تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ :« بَلْ عَبْدًا رَسُولًا » (٣٣٥).
وكان أزهد الناس في الدنيا وزخرفها، عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ : رأيت النبي ( ﷺ ) وإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ(٣٣٦) حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا(٣٣٧) مَصْبُوبًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ(٣٣٨) مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ:«مَا يُبْكِيكَ ؟ ». فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: « أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ » (٣٣٩).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود ( قَالَ: اضْطَجَعَ النَّبِيُّ ( عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جِلْدِهِ، فَقُلْتُ : بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كُنْتَ آذَنْتَنَا فَفَرَشْنَا لَكَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَقِيكَ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ(: « مَا لي وللدُّنْيَا إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا » (٣٤٠).
وكان لا يحب أن يرفعه الناس فوق قدره :
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه سَمِعَ - عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ( يَقُولُ :« لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ » (٣٤١).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا وَيا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) :« يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ » (٣٤٢).
وعن عبدالله بن الشخير العامري ( : انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ )، فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ :« السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ». قُلْنَا : وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَقَالَ :« قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ » (٣٤٣).
وكان لا يحب أن يقوم له أحد إذا دخل :
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ )، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا؛ لِمَا يَعْلَمُوا مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ)(٣٤٤).
ولا يحب أحدا أن يقف فوق رأسه كما تفعل الملوك والقياصرة :
فقد أخرج مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ : اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ :« إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا؛ ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا » (٣٤٥).
وهذا أمر عجيب ؛ فقد ذكر الفقهاء أن القيام في صلاة الفريضة من أركان الصلاة(٣٤٦)، ومع هذا لما أحسَّ النبي ( ﷺ ) أن هذا الأمر سوف يؤدي إلى تعظيمه أمرهم بالقعود.
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ ( رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ:« هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ(٣٤٧) » (٣٤٨).
بل كان النبي ( ﷺ ) يلزم خاصته وأهله بالزهد أيضا، فقد خير أمهات المؤمنين بين البقاء معه على هذه الحال ولهن الجنة، وبين الدنيا ويطلقهن، فاخترن البقاء معه(٣٤٩) :
قال تعالى :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا() وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ( [الأحزاب: ٢٨-٢٩].
وجاءته فاطمة ابنته تسأله خادما من السبي، فوزعه النبي ( ﷺ ) على الناس، ولم يعط فاطمة منها شيئا، مع شدة حبه لها وشدة حاجتها له :
عن عَلِيًّ قَالَ : شَكَتْ فَاطِمَةُ إِلَى النَّبِيِّ ( مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى، فَأُتِيَ بِسَبْيٍ فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ، فَلَمْ تَرَهُ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ( أَخْبَرَتْهُ، فَأَتَانَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ :« عَلَى مَكَانِكُمَا ». فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ : أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا ؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ » (٣٥٠).
وفي روايةِ أبي داود قَالَ عَلِيٌّ لِابْنِ أَعْبُدَ : أَلَا أُحَدِّثُكَ عَنِّي وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ )، وَكَانَتْ أَحَبَّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَتْ عِنْدِي فَجَرَّتْ بِالرَّحَى حَتَّى أَثَّرَتْ بِيَدِهَا، وَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَتْ فِي نَحْرِهَا وَقَمَّتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتِ الْقِدْرَ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا وَأَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ ضُرٌّ، فَسَمِعْنَا أَنَّ رَقِيقًا أُتِيَ بِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ (، فَقُلْتُ : لَوْ أَتَيْتِ أَبَاكِ فَسَأَلْتِيهِ خَادِمًا يَكْفِيكِ. فَأَتَتْهُ فَوَجَدَتْ عِنْدَهُ حُدَّاثًا(٣٥١) فَاسْتَحْيَتْ فَرَجَعَتْ، فَغَدَا عَلَيْنَا وَنَحْنُ فِي لِفَاعِنَا(٣٥٢)، فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا فَأَدْخَلَتْ رَأْسَهَا فِي اللِّفَاعِ حَيَاءً مِنْ أَبِيهَا، فَقَالَ :« مَا كَانَ حَاجَتُكِ أَمْسِ إِلَى آلِ مُحَمَّدٍ ؟ » فَسَكَتَتْ مَرَّتَيْنِ، فَقُلْتُ : أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إِنَّ هَذِهِ جَرَّتْ عِنْدِي بِالرَّحَى حَتَّى أَثَّرَتْ فِي يَدِهَا، وَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَتْ فِي نَحْرِهَا، وَكَسَحَتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتِ الْقِدْرَ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا، وَبَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ أَتَاكَ رَقِيقٌ أَوْ خَدَمٌ، فَقُلْتُ لَهَا : سَلِيهِ خَادِمًا...)(٣٥٣). فانظر كيف قسم النبي ( ﷺ ) السبي ولم يعط فاطمة منه شيئا !.
فالنبي ( ﷺ ) قبل النبوة كان له مكانة عظيمة في قومه، ولا ينادونه إلا الأمين والصادق، وإذا اختلفوا في شيء تحاكموا إليه(٣٥٤)، وكان متزوجا من امرأة غنية، وله أعرق نسب في قريش، فعنده المال والمرأة الجميلة والمكانة المرموقة والسمعة الطيبة والنسب الشريف، فكيف يترك هذا كله ويحارب الناس أجمعين، ويكفرهم إلا من كان على طريقته، ويحارب الناس ويقول لقريش :« جئتكم بالذبح » (٣٥٥). وترميه العرب عن قوس واحدة، ثم بعد هذا كله ليس له من فعله أي مصلحة دنيوية لا له ولا لأبنائه ولا لأهله، بل حتى لما مات لم يُعْطِ الخلافة لأحد قرابته، فما كان لرجل يترك الكذب أربعين سنة، حتى صار طبعا له وسجية من سجاياه الثابتة التي يصعب انتزاعها منه، بل حتى لو أراد الكذب لأبت عليه طباعه وسجاياه ذلك، ثم بعد هذا التاريخ الطويل والسمعة السامية يقوم وينتحل الكذب، وليس أي كذب بل أشد أنواعه وهو الكذب على الله تعالى، وهو مع هذا لا يهدف لمصلحة ولا لغرض شخصي ؟ إن هذا لا يمكن أن يتصوره عاقل.
إن عدم رغبة النبي ( ﷺ ) في متاع الدنيا دليل أنه إنما فعل هذا طاعة لله، بوحي منه سبحانه.
وقد وُفق بعض المستشرقين المنصفين لفهم هذا المعنى وإدراكه ؛ يقول (كارليل) (٣٥٦) :(ومما يبطل دعوى القائلين أن محمدا ( لم يكن صادقا في رسالته، أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة، ولم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوي، مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطان، ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب )(٣٥٧). وقد استدل بهذا الدليل حبيب النجار(٣٥٨) الذي في سورة يس ؛ كما قال تعالى :( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مهْتَدُونَ( [يس: ٢٠-٢١].
وهذا الدليل حق، وكان كل نبي يأتي إلى قومه يقول لهم هذا الأمر، ففي سورة الشعراء قال نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام:( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [الشعراء: ١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠].
--


الصفحة التالية
Icon