المطلب الثالث عشر: إحكام التشريع(٣٦٦):
لا يوجد قانون في الإحكام والتنظيم مثل التشريع الذي جاء به النبي ( ﷺ )، فإن شريعته جاءت لتسد حاجة الإنسان في كل نواحي الحياة، وتبين الحكم في كل ما يحتاج الإنسان، وتنظم حياة المسلم من ولادته إلى موته ؛ تسير معه جنبا إلى جنب ترعاه وتحضنه وتقومه وتسدده وتبصره وتهديه ( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ( [البقرة: ٩٧]، شريعة كاملة، فيها من اللين واليسر والموافقة للعقل ما يجعل كل من يلتزم بها سعيدا فخورا، وفيها من المرونة ما يجعلها تصلح لكل زمان ومكان وأمة، لا تميز بين الناس في الأحكام، فالعدل أساسها والحكمة نبراسها.
على حين لا تجد هذا في كل شريعة وقانون وضعي، ولا يعرف هذا حق معرفته إلا القانونيون والمطلعون على القانون الوضعي، فهو يعدل في كل سنة عدة مرات، والقانون لو نجح في بلد فإنه قد لا ينجح في بلد آخر، ولو صلح في وقت فقد يكون وبالا في وقت آخر، وانظر ماذا فعلت الشيوعية الحمراء(٣٦٧) بأهلها التي لم يلتزم بها من التزم إلا بعد جريان أنهار الدم، واستخدام أبشع أنواع التعذيب، ثم سقطت إلى الهاوية وألقيت في زبالة التاريخ غير مأسوف عليها.
ولم يستطع أحد أن يأتي بشريعة تخدم الإنسان في جميع شؤون حياته، فقصارى جهد من وضعها أن تكون فكرة في مجال معين ؛ ففي الاقتصاد برزت الاشتراكية والرأسمالية، فالأولى قتلت الإبداع وساوت بين النشيط والخامل، وبين المضحي واللامبالي، والذكي والغبي(٣٦٨). والأخرى جعلت شعوبها شعوبا طبقية ما بين كل طبقة وطبقة مفاوز، فبعض الطبقات طبقة مسحوقة لا تجد قوت يومها، وبعضهم يتمتعون بكل متاع الدنيا، وليس على هؤلاء حق لأولئك(٣٦٩).
وفي السياسة برزت الديمقراطية والدكتاتورية، فالأولى(٣٧٠) فتحت الباب على مصراعيه وأطلقت الحريات بلا عنان، وجعلت الحكم للشعب طارحة أي حكم شرعي غير مبالية فيه، فحكم الناس يقدم على حكم رب الناس، والأخرى(٣٧١) جعلت الحكم محصور بشخص واحد ولا يحق لأحد التدخل مهما بلغ من الثقافة والعلم، وغيرها من الأفكار والمذاهب التي لا يسع المجال لذكرها.
وهذه القوانين مع كثرة الواضعين لها والمنقحين والمراجعين والمصححين إلا أنه لا زالت تغير يوما بعد يوم، فمن وضعها غير راض عنها فضلا عن غيره.
وكل هذه الأفكار والمذاهب والتشريعات والقوانين على اختلاف مجالاتها كان منتهى قدراتها مجتمعة أن تخدم بدن الإنسان وجسمه، ولم تستطع أن تقدم للروح شيئا، فكان غاية ما عندها أن تقول للناس: ليتخذ كل منكم الدين الذي يريد، فإننا لا نعرف كيف تسعد الروح.
فكل هذه العقول لم تستطع أن تأتي بشريعة خالدة شاملة لجميع نواحي الحياة كما أتى به النبي ( ﷺ ) في شريعته، وهذا من أدلة صدقة، فالبشر لا يقدرون على هذا، ولا حتى النبي ( ﷺ ) يقدر على ذلك، إنما هذه الشريعة تنزيل من عزيز حميد، شريعة لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، يقول برناردشو (٣٧٢): ( لو كان محمد - نبي الإسلام - حيًّا يرزق لاستطاع أن يحل مشاكل العالم وهو جالس على حصيرته يحتسي القهوة )(٣٧٣).
--------------------------------------------------------------------------------
(٣٦٦) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص: ٤٧)
(٣٦٧) القرآن وإعجازه التشريعي، لمحمد إسماعيل إبراهيم، ص ٣١، دار الفكر العربي، القاهرة.
(٣٦٨) القرآن والسنة والعلوم الحديثة، لمحمد أحمد مدني، ص ١٠١، مبحث الماركسية وتناقضاتها
(٣٦٩) انظر : الموسوعة المسيرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة ( ٢/٩٢٠ )
(٣٧٠) انظر : السابق ( ٢/١٠٦٦ )
(٣٧١) انظر : السابق ( ٢/٩٢٩ )
(٣٧٢)برنارد شو : المفكر والأديب والفيلسوف الإنكليزي المشهور : ولد برنارد شو في دبلن عاصمة ايرلندا في ٢٦ يوليو ١٨٥٦ وكان أبواه من البروتستانت ذوي الأصل الإنجليزي. تلقى شو مبادئ التعليم الأولى على يد قريب له كان قاسياً بروتستانتياً ثم دخل إحدى المدارس الدينية في سن العاشرة، لكنه تركها إلى مدرسة أخرى ثم أخرى حتى ترك الدراسة المنتظمة نهائياً ولكنه كان نهماً في القراءة بشكل غير عادي وكثيراً ما كان يتحف رفاقه التلاميذ بقصص من الإلياذة والأوديسة التي كان يحفظها عن ظهر قلب. في عام ١٨٧٢ لحق شو بلندن فعمل في شركة اديسون للتلفونات لفترة طويلة، وكان في هذه الفترة يرسل إبداعه الأدبي لعدد من الصحف لكن لم ينشر له إلا القليل مما كان يرسله، وحين بلغ الثالثة والعشرين من عمره قرر الاشتغال بكتابة الرواية ووضع لنفسه برنامجاً يومياً التزم به بشدة فألف خمس روايات في أربع سنوات، كما كان يختلط بالأوساط الموسيقية والفنية في لندن والذهاب إلى جمعيات المناظرة والخطابة وحضور الاجتماعات السياسية، في عام ١٨٨٤ انضم شو إلى الجمعية الفابية السياسية التي تدعو إلى تحقيق الاشتراكية بالتدريج وظل شو اثنتي عشرة سنة يتحدث في الجمعية الفابية بمعدل ثلاث مرات أسبوعيا حتى اصبح من المع من اعتلى منابر لندن واصبح له جمهور من المستمعين لا يفوت له محاضرة أو حديثاً وكانت الهيئات والجمعيات تتسابق إلى دعوته، وخلال الفترة من ١٨٨٥ و ١٨٩٨ كان شو يكتب بالأجر لعدة صحف يومية ومجلات نقدية في الأدب والموسيقى والمسرح، وألف عدة مسرحيات مثل (بيوت الأرامل) و(الغائب)و(مهنة مسزوارين)و(السلاح والإنسان) وبعدها بدأ الجمهور يعجب بشو ككاتب مسرحي من الطراز الأول واشتهر عالميا. وقد أُخرج عدد كبير من هذه المسرحيات أثناء حياة شو على مسارح إنجلترا وأمريكا وألمانيا والنمسا وروسيا وهنجاريا، وكسب شو شهرة في أوروبا منذ ما قبل الحرب العظمى الأولى ككاتب من الرواد، بل لقد قالت صحف برلين عنه : إنه (ملك من ملوك المسرح الألماني) وبحلول عام ١٩١٥ كانت شهرته قد بلغت الآفاق ومسرحياته يتم تمثيلها في شتى أنحاء المعمورة من إنجلترا إلى اليابان، وألف كتاب (دليل المرأة الذكية عن الرأسمالية والاشتراكية) وأعطي جائزة نوبل عام ١٩٢٥ بسبب إنتاجه الأدبي الضخم،
توفي شو في ٢ نوفمبر عام ١٩٥٢ بعد أن تجاوز الرابعة والتسعين بثلاثة شهور واحرق جسده عملاً بوصيته وخلط رماده برماد زوجته ودفن في حديقة بيتهما الريفي ويحتفظ المتحف البريطاني بعدد كبير من مخطوطات شو ورسائله بوصفها من الآثار القومية. (جريدة البيان الإماراتية، العدد ٩١ بتاريخ ٧أكتوبر ٢٠٠١، بقلم أمنية طلعت)
(٣٧٣) القرآن والسنة والعلوم الحديثة، لمحمد أحمد مدني، صفحة : ٧١، مطابع خالد للأوفست، الرياض.


الصفحة التالية
Icon