المطلب السادس عشر : تأليف قلوب العرب :
لقد كان العرب قبل الإسلام قبائل متنازعة متناحرة، لا هم لها إلا المفاخرة والتعالي على بعض، تشتعل الحرب بينهم لأتفه أمر، وقد تستمر الحرب بينهم لعشرات السنوات لأجل ناقة - على سبيل المثال - كما حصل في حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة بين تغلب وبكر ابني وائل ؛ لأن كليب بن ربيعة التغلبي قتل ناقة البسوس خالة جساس بن مرة الكلبي(٣٨٨).
وحرب داحس والغبراء التي كانت بين قبيلتي عبس وذبيان، لخلاف على سباق خيل بين فرسين - وهما داحس والغبراء - واستمرت هذه الحرب اربعين سنة أيضاً، وشارك في بعض حروبها عنتر، وذكرها زهير بن أبي سلمى في معلقته (٣٨٩).
فهذه النفوس كان فيها من الأنفة، وعدم الرضا بالضيم والحمية القبلية، مما يجعلها أصعب ما يكون للاتحاد وجمع الكلمة، فالقدرة على جمع كلمة العرب قاطبة بقبائلها المتنافرة، وإسقاط ما في نفوس بعضهم لبعض من البغض والثأر من رجل واحد، أمرُ يكاد يصل إلى حد الإعجاز، قال تعالي ممتنًا على هذه الأمة بهذه النعمة :( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ( [ آل عمران :] وقال سبحانه مبيناً صعوبة تأليف القلوب :(... هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ( [الأنفال : ٦٢، ٦٣]، فكانوا بعد هذا التآلف قوة ضاربة أسقطت فارس والروم، وقد تلمح بعض الشعراء هذا المعنى فقال :
هل تطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأحداث أحياه
فكانوا يداً في الحرب واحدة من خاضها باع دنياه بأخراه
--------------------------------------------------------------------------------
(٣٨٨) المعجم المفصل في الأدب، د. محمد التونجي ( ١/١٨٧ )، ودار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي، ١٩٩٣م.
(٣٨٩) المصدر السابق (٢/٤٣٠).