المبحث الثالث : ردود القرآن على الطاعنين
وقد تكلم القرآن عن كثير من الطاعنين، وذكر طعوناتهم، ثم رد عليها ردا واضحا بينا مفحما ؛
١- فقد طعن المشركون واليهود في صحة نسبة القرآن إلى الله ؛ فقالوا للنبي ( كما ذكر الله تعالى عنهم في قوله :( وَإِذَا بَدَّلْنَا آية مَكَانَ آية وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( [النحل : ١٠١] ؛ أي أنك متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم تخالفه(٤٥٧).
( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ... ( [الأنبياء: ٥].
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ... ( [الفرقان: ٤]
فرد الله تعالى عليهم من عدة وجوه(٤٥٨):
أ-في قوله :( والله أعلم بما ينزل ( أي والله أعلم بما ينزل من المصالح ؛ فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده، فينسخه وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه.
ب-ثم قال تعالى: ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ( [النحل: ١٠٢] ("ونزله" تنبيه على أن إنزاله مدرجا على حسب المصالح بما يقتضي التبديل ( من ربك بالحق ( ملتبسا بالحكمة ( ليثبت الذين آمنوا ( ليثبت الله الذين آمنوا على الإيمان بأنه كلامه، وأنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة، رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم ( وهدى وبشرى للمسلمين (المنقادين لحكمه).
ج-ثم قال تعالى بعدها بقليل ( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ( [النحل: ١١٦]. والواقع أن النبي ( ﷺ ) أفلح في كل أعماله ودعوته وغزواته، ومكّنه الله من البلاد والعباد، ولم يمت حتى دانت له الجزيرة كلها بالإسلام لله والعبادة له وحده، ولو كان مفتريا على الله لم يكن الله تعالى ليمكن له هذا التمكين.
د- ثم إنه ما كان لبشر أن يفتري كلاما وينسبه إلى الله، ويضل به الملايين من الناس، ثم بعد ذلك لا يعاجله الله تعالى بالعقوبة :( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [يونس: ٣٧] وقال تعالى :( تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ()وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ()لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ()ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ()فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( [الحاقة: ٤٤-٤٧]،
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( [الأحقاف: ٨]، إن كنت كاذباً فالله أعلم منكم بذلك، ولا يملك أحد لي أن يمنع عذاب الله بي الذي لا يتأخر عن الكاذب، فكون الله يعلم بي ولم يعذبني هذه شهادة من الله على صدقي ( كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ (.
هـ- ورد على اليهود وغيرهم من الكفار الذين أنكروا إنزال أي كتاب(٤٥٩)، وذلك أن القول بأن الله تعالى لم ينزل شيئا من الكتب، من أكبر السب لله تعالى ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ( [الأنعام: ٩١]، ثم قال :( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( [الأنعام : ٩١].
٢- وبعضهم ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا.. ( [الأنفال : ٣١] ؛ فتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، كما تقدم ذكره (٤٦٠).
٣- وبعضهم زعم أن هذا القرآن إنما هو قصص الأولين وأساطير السابقين ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( [النحل: ٢٤].
( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( [الفرقان : ٤-٥].
فرد الله عليهم أنه لا يعرف أن يقرأ ولا يكتب، فكيف نقلها وكيف قرأها ؟ قال تعالى :
( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( [العنكبوت: ٤٨].
فما كان لرجل أمي لا يقرأ ولا يكتب أن يأتي بمثل هذا الكلام، ويتحدى به الثقلين، ولم يقدر أحد على معارضته وإجابة هذا التحدي.
٤- وبعضهم قال : إنه تعلمه من غلام نصراني. فقال الله تعالى :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ( [النحل: ١٠٣]
( وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ( [الفرقان: ٤].
(يعنون جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي، وقيل : جبرا ويسارا كانا يصنعان السيوف بمكة، ويقرآن التوراة والإنجيل، وكان الرسول ( ﷺ ) يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه. وقيل: عائشا غلام حويطب بن عبد العزى قد أسلم، وكان صاحب كتب. وقيل : سلمان الفارسي. ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ( لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه -مأخوذ من لحد القبر- أعجمي غير بين وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة.
والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم، وتقريره يحتمل وجهين :
أحدهما : أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون ما تلقفه منه ؟‍!
وثانيهما : هب أنه تعلم من المعنى باستماع كلامه، لكن لم يتلقف منه اللفظ ؛ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى، فهو معجز من حيث اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن، لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف تعلَّم جميع ذلك من غلام سوقي، سمع منه في بعض أوقات مروره عليه كلمات أعجمية لعله لم يعرف معناها، وطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم)(٤٦١).
(قال القاضي ابن الطيب : نحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تَعَلُّمٍ، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى المتعلم، منهم ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه ؛ عُلم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي)(٤٦٢).
٥- ادعاؤهم أنه من النبي ( ﷺ ) نفسه وليس من عند الله :
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(١٥)قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( [يونس: ١٥-١٦].
قال ابن كثير - رحمه الله - :( يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش، الجاحدين المعرضين عنه أنهم إذا قرأ عليهم الرسول ( ﷺ ) كتاب الله، وحججه الواضحة، قالوا له :( ائت بقرآن غير هذا ( أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو ( بدله ( إلى وضع آخر. قال الله تعالى لنبيه ( :( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ( أي ليس هذا إليَّ إنما أنا عبد مأمور، ورسول مبلغ عن الله ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم( ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ( أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته، والدليل على إني لست أتقوله من عندي، ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل، لا تنتقدون عليَّ شيئا تغمصونني(٤٦٣) به ولهذا قال :( فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ( أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي ( ﷺ )، قال هرقل لأبي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا. وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق، والفضل ما شهدت به الأعداء، فقال له هرقل : لقد عرفت إنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله، وقال جعفر ابن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة)(٤٦٤).
٦- اتهام النبي ( ﷺ ) بأنه شاعر، أو مسحور أو ساحر، أو كاهن يتلقاه من الشياطين، أو مجنون، أو أن ما يتلقاه هو أضغاث أحلام :
( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ( [الأنبياء: ٥].
( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ()وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ()وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ()تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [الحاقة: ٤٠-٤٣].
( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ( [التكوير: ٢٥].
(... إذ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ( [الإسراء: ٤٧].
( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ( [يونس: ٢].
( وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( [الحجر: ٦].
ويلاحظ في هذه التهم التخبط العجيب والتناقض الغريب، فتارة يتهمونه بأنه ساحر وتارة مسحور، ولما رأوا بلاغة القرآن قالوا : هذا شعر. فلما اعترض عليهم أن أوزان الشعر معروفة، وهذا ليس على وزن شيء منها، قالوا : كاهن يعني يسجع كسجعهم، فلما اعترض عليهم بأنه لو كان شعرا أو سجعا لكان الناس يستطيعون تقليده، ولكن الواقع أنه لم يستطع أحد فعل ذلك، لاسيما مع استمرار تحديه لهم في كل مناسبة، فقالوا : إنه أضغاث أحلام. ولكن أضغاث الأحلام لا تأتي بهذا الإحكام والتنظيم والإعجاز والبلاغة، فقالوا: إذن يتلقاه من الشياطين. ولكن كيف يتلقاه من الشياطين وهو يلعن الشياطين صباحا ومساء، ولا يستفتح كتابه إلا بالاستعاذة منهم، والشيطان من صفاتها إضلال الناس، وهذا الكتاب يهدي لأقوم سبيل وأفضل طريق، وهناك الكثير من السحرة والكهنة لديهم شياطين ومردة


الصفحة التالية
Icon