المبحث الرابع : ردود إجمالية أخرى
المطلب الأول : عدم معارضة كفار مكة له، مع أنهم أكثر الناس عداوة وفصاحة:
(إن النبي ( ﷺ ) قد تحدى العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عنه وانقطعوا دونه، وقد بقي ( يطالبهم به مدة عشرين سنة، مظهراً لهم النكير، زاريًا على أديانهم، مسفهاً آراءهم وأحلامهم، حتى نابذوه وناصبوه الحرب، فهلكت فيه النفوس، وأُريقت المهج، وقُطعت الأرحام، وذهبت الأموال، ولو كان ذلك(٤٦٦) في وسعهم وتحت أقدارهم، لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة، ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة، ولم يكونوا تركوا السهل الدمث من القول إلى الحَزْنِ(٤٦٧) الوعر من الفعلٍ، وهذا ما لا يفعله عاقل، ولا يختاره ذو لب، وقد كان قومه قريش خاصة موصوفين برزانة الأحلام، ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع(٤٦٨) والشعراء المفلقون(٤٦٩)، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل والخصومه واللدد، فقال سبحانه :( ما ضربوه لك إلاَّ جدلاً بل هُمْ قومٌ خصمون ( وقال سبحانه :( وتُنذِرَ بِه قوما لُداَّ (، فكيف كان يجوز -على قول العرب ومجرى العادة مع وقوع الحاجة ولزوم الضرورة -أن يغفلوه ولا ويهتبلوا الفرصة فيه، وأن يضربوا عنه صفحاً، ولا يحوزوا الفلاح والظفر فيه لولا عدم القدرة عليه والعجز المانع منه.
ومعلوم أن رجلا عاقلا لو عطش عطشاً شديدا، خاف منه الهلاك على نفسه، و بحضرته ماء معرض للشرب فلم يشربه حتى هلك عطشاً، لحكمنا أنه عاجز عن شربه غير قادر عليه،
وهذا بين واضح لا يُشكل على عاقل.
قلت: وهذا -من وجوه ما قيل فيه ـ أبينها دلالة وأيسرها مؤونة، وهو مقنع لمن تنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه)(٤٧٠).
و(قال الخطابي : سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج قال : سأل رجل بعض العلماء عن قوله تعالى :( لا أقسم بهذا البلد ( [البلد: ١] ؛ فأخبر أنه لا يقسم بهذا، ثم أقسم به في قوله :( وهذا البلد الأمين ( [التين: ٣] ؟ فقال ابن سريج : أي الأمرين أحب إليك أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك؟ فقال : بل اقطعني ثم أجبني. فقال : اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله ( ﷺ ) بحضرة رجال، وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا وعليه مطعنا، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به، وأسرعوا بالرد عليه، ولكن القوم علموا وجَهِلْتَ فلم ينكروا منه ما أنكرت.
ثم قال له : إن العرب قد تدخل (لا ) في أثناء كلامها وتلغي معناها، وأنشد فيه أبياتا)(٤٧١).
--------------------------------------------------------------------------------
(٤٦٦) أي معارضة القرآن والإتيان بمثله.
(٤٦٧) وهو ما غلظ من الأرض. القاموس المحيط ( ح ز ن )
(٤٦٨) المَصْقَعُ : البليغُ يتفنن في مذاهب القول. الوسيط ( ص ق ع )
(٤٦٩) المُفْلِق : المبدع، لأن من معاني الفالق أي الخالق والمبدع كما في قوله تعالى ( أن الله فالق الحب والنوى ( انظر : لسان العرب (١٠/٣١٢).
(٤٧٠) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبدالقاهر الجرجاني (ص: ٢١)، وهي من رسالة الخطابي.
(٤٧١) البرهان في علوم القرآن للزركشي (٢/٥٤). وسيأتي ذكر بعض هذه الأبيات في مبحث دعوى تناقض بعض الآيات مع بعض.