الفصل الثاني : الردود التفصيلية على من طعن في القرآن
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول : التشكيك في نسبة القرآن إلى الله تعالى.
المبحث الثاني : زعم عدم حفظه.
المبحث الثالث : اتهام القرآن بالتناقض.
المبحث الرابع : اتهام القرآن بمعارضة الحقائق.
المبحث الأول : التشكيك في نسبة القرآن إلى الله تعالى (مصدر القرآن)
وهذا المبحث فيه ثلاثة مطالب حاصرة -إن شاء الله - لطعونهم أو على أقل تقدير تضمنت هذه المطالب أبرز الطعون التى وجهت إلى مصدر القرآن، بهدف التشكيك فى نسبته إلى الحق سبحانه وتعالى، وتفصيل ذلك فيما يلى :
المطلب الأول: دعواهم أن القرآن من عند النبي محمد ( ﷺ ) :
هذا الطعن من أقدم الطعون وقد ذكر في القرآن كما في قوله سبحانه :( وَإِذَا بَدَّلْنَا ءايَةً مَكَانَ ءايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( [النحل: ١٠١] أي أنك متقول على الله تعالى(٤٧٣).
وكما قال سبحانه:
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ... ( [الفرقان: ٤].
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون ( [السجدة: ٣].
( أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ( [سبأ: ٨]،
( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ( [سبأ: ٤٣].
وتقدم في مبحث ردود القرآن على الطاعنين تفصيل هذا الطعن ورد القرآن عليه، ولا زال الطاعنون يرددون هذه الشبهة إلى اليوم :
ففي دائرة المعارف الإسلامية :(القرآن ليس من عند الله )(٤٧٤).
ويقول المستشرق ويلز (٤٧٥):(محمد هو الذي صنع القرآن )(٤٧٦).
ويقول يوليوس فلهاوزن(٤٧٧) :(القرآن من عند محمد )(٤٧٨).
ويقول غوستاف لوبون (٤٧٩) :( القرآن من تأليف محمد)(٤٨٠).
ويقول درمنجهام (٤٨١) -وهو يصور النبي ( ﷺ ) بالفنان أو الشاعر الذي يتأمل الطبيعة، ثم يبدع في التأليف-:( وهذه النجوم في ليالي صيف الصحراء كثيرة شديدة البريق، حتى ليحسب المرء أنه يسمع بصيص ضوئها، وكأنه نغم نار موقدة.
حقا إن في السماء لشارات للمدركين، وفي العالم غيب بل العالم غيب كله ؛ لكن ألا يكفي أن يفتح الإنسان عينيه ليرى، وأن يرهف أذنه ليسمع، ويرى الحق ويسمع الكلم الخالد، لكن للناس عيونا لا ترى وآذانا لا تسمع، أما هو فيحسب أنه يسمع ويرى، وهل تحتاج لكي تسمع ما وراء السماء من أصوات إلا إلى قلب مخلص مُلِئَ إيمانا...)(٤٨٢).
ويقول نولدكة (٤٨٣): (كانت نبوة محمد نابعة من الخيالات المتهيجة، والإلهامات المباشرة للحس أكثر من أن تأتي من التفكير النابع من العقل الناضج، فلولا ذكاؤه الكبير لما استطاع الارتقاء على خصومه، مع هذا كان يعتقد أن مشاعره الداخلية قادمة من الله بدون مناقشة)(٤٨٤).
ومجمل أقوال المستشرقين وغيرهم من الطاعنين في الوحي الذي يوحى إليه (؛أن هذا القرآن إنما هو:
١-إلهام سمعي.
٢-تأثير انفعالات عاطفية.
٣-لأسباب طبيعية عادية كباعثة النوم (التنويم الذاتي).
٤-تجربة ذهنية فكرية.
٥-حالة كحالة الكهنة والمنجمين.
٦-حالة صرع وهستيريا(٤٨٥).
٧-ول نصر أبو زيد -مُلَمِّحًا إلى هذا الطعن-:(القرآن ينتمي إلى ثقافة البشر)(٤٨٦).
-الرد على هذه الدعوى:-
١- بداية ؛ فقد فَصَلَ الله تعالى هذه القضية بقوله :( وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ ( [يونس: ٣٧].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية :( هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله، لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله، الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ؛ ولهذا قال تعالى :( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ( أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله، ولا يشبه هذا كلام البشر ( ولكن تصديق الذي بين يديه ( أي من الكتب المتقدمة، ومهيمنا عليه ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل، وقوله :( وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ( أي وبيان الأحكام والحلال والحرام بيانا شافيا كافيا، حقا لا مرية فيه من الله رب العالمين، كما في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب :(فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم) أي خبر عما سلف وعما سيأتي وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه)(٤٨٧).
(لقد علم الناس أجمعون - علماً لا يخالطه شك - أن هذا الكتاب العزيز جاء على لسان رجل عربي أمي، ولد بمكة في القرن السادس الميلادي، اسمه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات الله و سلامه عليه و على آله.. هذا القدر لا خلاف فيه بين مؤمن وملحد؛ لأن شهادة التاريخ المتواتر به لا يماثلها و لا يدانيها شهادته لكتاب غيره ولا لحادث غيره ظهر على وجه الأرض.
أما بعد ؛ فمن أين جاء به محمد بن عبد الله ( ؟
أَمنْ عند نفسه و من وحي ضميره، أم من معلم ؟ و مَن هو ذلك المعلم ؟
نقرأ في هذا الكتاب أنه ليس من عمل صاحبه، و إنما هو قول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثَمَّ أمين : ذلكم هو جبريل عليه السلام، تلقاه من لدن حكيم عليم، ثم نزله بلسان عربي مبين على قلب محمد ( ﷺ )، فتلقنه محمد منه كما يتلقن التلميذ عن أستاذه نصاً من النصوص، و لم يكن له فيه من عمل بعد ذلك إلا :
١) الوعي و الحفظ، ثم
٢) الحكاية والتبليغ، ثم
٣) البيان والتفسير، ثم
٤) التطبيق و التنفيذ.
أما ابتكار معانيه و صياغة مبانيه فما هو منها بسبيل، و ليس له من أمرهما شيء، إن هو إلا وحيٌ يوحى.
هكذا سماه القرآن حيث يقول :( و إذا لم تأتهم بآيةٍ قالوا لولا اجتبيتها، قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ( [الأعراف: ٢٠٣]، و يقول :( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن اتبع إلا ما يوحى إلي ( [يونس: ١٥ ] و أمثال هذه النصوص كثيرة في شأن إيحاء المعاني، ثم يقول في شأن الإيحاء اللفظي :( إنا أنزلناه قرآناً عربياً ( [يوسف : ٢ ]، ( سنقرئك فلا تنسى ( [ الأعلى : ٦]، ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه ( [القيامة : ١٦ -١٩ ]، ( اقرأ ) ( [العلق : ١]، ( و اتل ( [الكهف : ٢٧ ]، ( و رتل ( [المزمل: ٤ ] فانظر كيف عبر بالقرآن بالقراءة و الإقراء، و التلاوة و الترتيل، و تحريك اللسان، و كون الكلام عربياً، و كل أولئك من عوارض الألفاظ لا المعاني البحتة.
القرآن إذاً صريح في أنه "لا صنعة فيه لمحمد ( ﷺ )، و لا لأحد من الخلق، و إنما هو منزل من عند الله بلفظه و معناه"،
و العجب أن يبقى بعض الناس في حاجة إلى الاستدلال على الشطر الأول من هذه المسألة، و هو أنه ليس من عند محمد ( ﷺ ) )(٤٨٨).
٢- لو كان القرآن من تأليف النبي ( ﷺ )، لاستطاع العرب أن يأتوا بمثله، مع حرصهم الشديد على معارضته، لكن النبي ( ﷺ )كان يتحداهم دائما ويكرره عليهم كثيرا، ومع هذا لم يطق أحد منهم معارضته، ولا يقال : إن النبي ( ﷺ ) بلغ من العبقرية مبلغا، بحيث لم يستطع أحد أن يأتي بمثل ما قال. لأنه يمكن للمخالفين أن يجتمعوا فيألفوا قرآنا، ومن المعلوم أن الجماعة تبدع وتبتكر أكثر من الإنسان الواحد، فلو اجتمع مائة شاعر مثلا لتأليف قصيدة ؛ لكانت في جمالها وقوتها وسبكها أفضل بمراحل من شاعر واحد ألف قصيدة، مهما بلغ هذا الشاعر من البلاغة والبيان(٤٨٩)، فإذا كان آحاد المشركين لم يستطيعوا معارضة القرآن؛ فلماذا لم يجتمعوا لمعارضته ؟ ولكن هيهات ؛ فإنه لو اجتمعت قريش والعرب وأهل الأرض قاطبة، بل والجن ما كانوا لهم أن يأتوا بمثل آية منه ( قُل لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( [الإسراء: ٨٨].
٣- (تبرؤ محمد(من نسبة القرآن إليه ليس ادعاء يحتاج بينة، بل هو إقرار يؤخذ به صاحبه ؛
في الحقيقة إن هذه القضية لو وجدت قاضياً يقضي بالعدل، لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل، ذلك أنها ليست من جنس ( الدعاوى ) فتحتاج إلى بينه، و إنما هي من نوع ( الإقرار ) الذي يؤخذ به صاحبه، و لا يتوقف صديق و لا عدو في قبوله منه، أي مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة، ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة، نقول أي مصلحة له في أن ينسب بضاعته لغيره، و ينسلخ منها انسلاخاً ؟ على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعة و فخامة شأن، و لو انتحلها لما وجد من البشر أحداً يعارضه و يزعمها لنفسه.
الذي نعرفه أن كثيراً من الأدباء يسطون على آثار غيرهم، فيسرقونها أو يسرقون منها ما خف حمله و غلت قيمته و أُمنت تهمته، حتى إن منهم من ينبش قبور الموتى، و يلبس من أكفانهم و يخرج على قومه في زينة من تلك الأبواب المستعارة ؛ أمَّا أن أحداً ينسب لغيره أنفس آثار عقله، وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم يلده الدهر بعد )(٤٩٠).
٤- (لا أدل على أن الوحي القرآني خارج عن الذات المحمدية من مخالفة القرآن في عدة مواطن لرأيه الشخصي ولطبعه الخاص)(٤٩١)ومعاتبته على أخطائه :
مثل قوله تعالى :( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لولا كتاب من الله سبق لمسكم في ما أخذتم عذاب عظيم ( [الأنفال : ٦٧]
عن ابْنَ عَبَّاسٍ قالُ : حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ( الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي...-الحديث وفيه- : فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ :« مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى ؟ » فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً؛ فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ ل