المطلب الثاني : نقله من غيره، والرد عليهم :
أولاً : يقرر بعض المشككين أو الطاعنين أن القرآن ليس من عند النبي ( ﷺ ) ولكنه ليس من عند الله أيضا، بل هو مما نقله من غيره، كما قال ذلك مشركو مكة : إنه تعلمه من غلام نصراني. فقال الله تعالى: ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ([النحل: ١٠٣](... وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ([الفرقان: ٤]؛
وهذا الغير قد يكون أهل الكتاب، وقد يكون غيرهم.
وقد أُلَّفَتْ في هذا الطعن مؤلفاتْ استشراقية كثيرة منها(٥٣٧) :
١-عناصر يهودية في مصطلحات القرآن الدينية، للمستشرق المجري بيرنات هيللر(١٨٥٧-١٩٤٣)، نشر عام ١٩٢٨.
٢-كتاب(الكلمات الأجنبية في القرآن)رسالة دكتوراة للمستشرق الألماني فرانكيل(١٨٥٥-١٩٠٩)، ليدن، ١٨٧٨.
٣-مراجع القرآن وعلومه، للمستشرق الألماني بريتزل [ ١٨٩٣ - ١٩٤١].
٤-المصادر الأصلية للقرآن، لتاسدول، طبع في لندن ١٩٠٥.
٥-مصادر القصص الإسلامية في القرآن وقصص الأنبياء، سايدر سكاي، طبع في باريس ١٩٣٢.
٦-مصادر القصص الكتابي في القرآن، بقلم سباير، ١٩٣٩.
فهذه الكتب ألفت في هذا الطعن فقط، وهناك كتب أخرى ذكر هذا الطعن في أثنائها منها :
دائرة المعارف الإسلامية، حيث يقولون :(إنه ليس في سورة الفاتحة أي شئ إسلامي خاص بل على العكس فيها ألفاظ يهودية ونصرانية)(٥٣٨)،
وفيها أيضا:(القرآن عبارة عما كان عند الكهان، بدليل وجود السجع والقسم بالطبيعة)(٥٣٩).
ويقول جولدتسيهر(٥٤٠) :(إن القرآن ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها، واستقاها محمد بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها، التي تأثر بها تأثرا عميقا والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقة عند بني وطنه، لقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل إلى أعماق نفسه، وأدركها بايحاء قوة التأثيرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا)(٥٤١).
(ويزعم المبشر نلسن وغيره: أن الإسلام مقلَّد، وأن أحسن ما فيه مأخوذ من النصرانية، وسائر ما فيه مأخوذ من الوثنية.
وحكى الكونت هنري دي كاستري في كتابه "الإسلام سوانح وخواطر" عن أحد المبشرين قوله : إن الرسول ( ﷺ ) كان يقرأ ويكتب، فقرأ التوراة وقرأ الإنجيل، وأخذ تعاليمه منهما )(٥٤٢).
وفي كتاب "المنجد"(٥٤٣) الذي ألفه النصارى -كمرجع في اللغة العربية والأعلام- قد رسمت صورة للنبي (، وفيها أن الإنجيل أمامه وهو معه الريشة ينقل منه.
ويقول بلاشير(٥٤٤):(كان أسلوب النبي في القرآن أول عهده بالدعوة مفعما بالعواطف، قصير العبارات، فخم الصورة، يقدم أوصاف العقاب والثواب في ألوان صارخة، وكثيراً ما يكرر الآيات تَكراراً مملاً، حتى تنقلب معانيها إلى الضد، فلما تقدم الزمن بالنبي فقد الأسلوب منهجه الأول، وأخذ يَقُصُّ في نغمات هادئة بديعة قصص الأنبياء، مثلما تراه في قصة حب يوسف وزوجته بوتيفار، وكانت هذه الصورة مثيرة لخيال كثير من شعراء الفرس والترك، وفي آخر عهد النبي فقد الأسلوب كل حرارة وكل فن، وأغرم بالجدل الديني مع اليهود والنصارى)(٥٤٥).
ويقول طه حسين(٥٤٦) :(يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين، لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة، أو تأثيرات ببيئات متباينة، فمثلا نرى القسم المكي يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة، كما نشاهد أن القسم المدني أو اليثربي تلوح عليه أمارة الثقافة والاستنارة، فأنتم إذا دققتم النظر وجدتم القسم المكي يتفرد بالعنف والشدة، والقسوة والحدة والغضب والسباب، والوعيد والتهديد، مثل ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(١)مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(٢)سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(٣)وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ([المسد: ١-٤]( وَالْعَصْرِ()إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ([العصر: ١-٢]( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إن ربك لبالمرصاد ([الفجر: ١٣]( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(٥)لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ([التكاثر: ٥-٦]، ويمتاز هذا القسم أيضا بالهروب من المناقشة، وبالخلو من المنطق فيقول :( قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(١)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(٢)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(٣)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ(٤)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(٥)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ( [الكافرون: ١-٦].
ويمتاز كذلك بتقطع الفكرة واقتضاب المعاني وقصر الآيات، والخلو التام من التشريع والقوانين، كما يكثر فيه القسَمُ بالشمس والقمر والنجوم والضحى والفجر والعصر والليل والنهار والتين والزيتون... إلى آخر ما هو جدير بالبيئات الجاهلية الساذجة، التي تشبه بيئة مكة تأخرا وانحطاطا.
وأما القسم المدني فهو هاديء لين، وديع مسالم، يقابل السوء بالحسن، ويناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين، فيقول( َوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ([الأنبياء: ٢٢].
ويهجر مع أعدائه الترهيب والقسوة، ويسلك سبيل الترغيب والتطميع في المكافأة، فيقول ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( [آل عمران: ٣١]، ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب( [الطلاق٢-٣].
كما أن هذا القسم ينفرد بالتشريعات الإسلامية، كالمواريث والوصايا والزواج والطلاق و البيوع وسائر المعاملات، ولا شك أن هذا أثر واضح من آثار التوراة والبيئة اليهودية، التي ثقفت المهاجرين إلى يثرب ثقافة واضحة، يشهد بها هذا التغيير الفجائي الذي ظهر على أسلوب القرآن.
أما طول آياته في هذا القسم، فهذا أمر جلي ظاهر ؛ لأن إحدى آياته قد تزيد على عدة سور بتمامها من القسم المكي، أما أفكاره فهي منسجمة متسلسلة، ترمي أحيانا إلى غايات اجتماعية وأخلاقية.
وعلى الجملة فإن ما في هذا القسم المدني من هدوء ومنطق وتشريع وقصص وتاريخ، يدل دلالة صريحة على أن الظروف التي أحاطت بهذا الكتاب، أبان نشأته قد تطورت تطورا قويا)(٥٤٧).
وقال الخوري الحداد(٥٤٨) :(إن الدعوة المحمدية كانت في العهد المكي كتابية إنجيلية، توراتية مسيحية يهودية، والقرآن نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة، المنزلة على الأنبياء السابقين ومقتبس منها، والقرآن كتاب توراتي إنجيلي في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله، وكان محمد متأثرا إلى أبعد الحدود باليهود والنصارى، واليهودية والنصرانية والتوراة والإنجيل، حتى كأنه واحد منهم مع غلبة المسحة المسيحية)(٥٤٩).
وقال :( والسر الكبير في ثقافة محمد الكتابية والإنجيلية، وجود العالم المسيحي ورقة بن نوفل من بني أسد ابن عم السيدة خديجة في جوار النبي، وهو الذي زوجة ابنة عمه، فقد أجمعت الآثار على أن ورقة تنصر، وكان يترجم التوراة والإنجيل إلى العربية، فهو إذن عالم مسيحي كبير، وقد عاش محمد في جواره خمسة عشر عاما قبل مبعثه، ألا تكفي هذه المدة لنابغة العرب محمد بن عبدالله، لكي يأخذ عنه شيئا من علوم التوراة والإنجيل، وينص صحيح البخاري على أن ورقة هو الذي ثبَّّتَ محمدا في دعوته وبعثته لما عاد خائفا من غار حراء، وعلى أن الوحي فتر لما توفي ورقة، وحاول محمد الانتحار مرارا لفقده وفتوره، ونجد في المدينة في معية النبي حاشية مسيحية ويهودية قد أسلمت أو سايرت الإسلام، نجد بلالا الحبشي مؤذن النبي. وصهيبا الرومي المسيحي الثري، وسلمان الفارسي المسيحي الأصل، وعبدالله بن سلام اليهودي الوحيد الذي أسلم في المدينة مع كعب الأحبار، وهل كان حديث هذه الحاشية الكريمة سوى التوراة والإنجيل ؟ إن ذلك حجة قاطعة على أن بيئة النبي والقرآن كانت كتابية من كل نواحيها، وأن ثقافة محمد والقرآن كتابية في كل مظاهرها، وذلك بمعزل عن الوحي والتنزيل)(٥٥٠).
وقد ذهب إلى أبعد من ذلك المستشرق كليمان هواز(٥٥١)، حيث كتب فصلا زعم فيه أنه اكتشف مصدرا جديدا للقرآن، وهو شعر أمية بن أبي الصلت، ومن ذلك قوله :
وَيَوْمَ مَوْعِدِهِمْ أنْ يُحْشَرُوا زُمَراً يَوْمَ الَتَّغَابُنِ إذُ لا يَنفَعُ الحَذَرُ
مُسْتَوسِقِيَنَ مَعَ الدَّاعِي كَأَنَّهُمُ رِجْلُ الجَرادِ زَفَتْهُ الرَّيحُ مُنْتشرُ
بَرَزُوا بصعيد مستوٍ جَزِرٍ وأُنْزِلَ العَرْشُ والميزانُ والزُبُرُ
تَقُولُ خُزَّانُها مَا كَانَ عِنْدُكُمُ أًلُمْ يَكُنْ جَاءَكُمْ مِنْ رَبَّكُمْ نُذُرُ
قالوا بَلَى فتبَِعْنا فَتْيةً بَطَرُوا وَغَرَّنَا طُولُ هذا العَيْشِ والعُمُرِ(٥٥٢)
وأورد توسدال(٥٥٣) شبهته السابقة وقال : إن من مصادره- القرآن- شعر امرئ القيس حيث قال : دَنَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ القَمَرْ عَنْ غَزَالٍ صَادَ قَلْبِي ونَفَرْ
أَحْوَرُ قَدْ حِرْتُ في أَوْصَافِِِهِ نَاعِسُ الطَّرُفِ بعَيْنَيهِ حَوَرْ
بِسهَامٍ مِنْ لحاظٍ فَاتِكٍ تَرَكَتْنِي كَهَشِيِمِ المُحْتِظِر(٥٥٤)
ولو أردنا أن نجمع أقول كل من تكلم لطال بنا المقام (٥٥٥).
ثانياً الرد على من زعم أنه نقل من غيره:
١-لقد تكفل الله تعالى بالرد على هذه الشبهة:
وبالسبر والتقسيم القول : إن القرآن يمكن أن يأتي إلى النبي ( ﷺ ) عن أربع طرق: من عند نفسه، من عند شخص، من كتاب، من الله تعالى، أما من عند نفسه فقد تقدم معنا الرد على هذه الشبهة بأكثر من عشرة أوجه، (٥٥٦)
-أما من عند شخص ؛ فمن هو هذا الشخص ؟ أكثر الطاعنين على أنهم نصارى أو يهود، فرد الله تعالى عليهم أن لسان أولئك القوم ولغتهم أعجمية، ولكن لغة هذا القرآن عربي مبين، فكيف للأعجمي أن يأتي بأعلى الفصاحة وذروة البلاغة في اللغة العربية :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ( [النحل: ١٠٣].
-أما من كتاب، فالنبي ( ﷺ ) لا يقرأ ولا يكتب :( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ([العنكبوت: ٤٨]،
- فلم يبق إلا أنه من الله تعالى.
٢-العهد القديم لم يكن مترجما إلى اللغة العربية قبل الإسلام، وقد نص على ذلك المستشرقون أنفسهم، فهذا (جوتين) يقول عن صحائف اليهود :(إن تلك الصحائف مكتوبة بلغة أجنبية )(٥٥٧)، وقد أشارت الموسوعة البريطانية إلى عدم وجود ترجمة عربية لأسفار اليهود قبل الإسلام وأن أول ترجمة كانت في أوائل العصر العباسي، وكانت بأحرف عبرية(٥٥٨).
كيف إذن أخذ النبي ( ﷺ ) منها، لابد على المستشرقين أن يفتروا كذبة جديدة، وهي أن النبي ( ﷺ ) درس لغة التوراة فكان يترجمها للقرآن؟!!.
٣-ومن لطائف الاستدلال على أنه لم ينقل من غيره ما يذكره العلماء في فوائد أسباب النزول؛ إذ يذكرون أن من فوائد أسباب النزول أن دلالته على إعجاز القرآن، وأنه من الله تع


الصفحة التالية
Icon