المطلب الثالث: جواز نقده ومخالفته، والرد عليهم (٥٨٥):
أولا : هذا لون آخر من ألوان المواجهة البغيضة ضد القرآن، وهو ليس موجها ضد النص القرآني في مصدره الإلهي، ولكنه يستهدف أثر القرآن في الحركة الفكرية والتقدم العلمي.
فهو قد يقر بأن القرآن من عند الله، ولكن هذا الأمر لا يجعله يسلم من النقد والمخالفة، وحقيقة هذا الطعن أنه إنكار لقدسيته، وأنه من عند الله ولكن بأسلوب ذكي ؛ لأنه يعلم أنه لو صرح بإنكار القرآن وأنه ليس من عند الله، فسوف يلقى طوفاناً من المواجهة والتهم التي قد تصل إلى تكفيره ؛فلجأوا إلى هذه الشبهة و مؤداها هو نفس مؤدى إنكار القرآن، فأهم قضية عند المسلمين -وهي التي تؤرق الكافرين وأذنابهم- أن القرآن قدسي لا يقبل النقد، وحاكم واجب الاتباع.
و (يتزعم هذه النزعة ضد الإسلام الفيلسوفان الألمانيان ؛ تنمان المتوفى ١٨٢٩ وبروكر المتوفى ١٧٧٠، والفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزان المتوفى ١٩٤٧، ويرى هؤلاء أن أهم عوامل الركود في العقلية العربية وضآلة الفكر الإسلامي ترجع إلى القرآن أولا، فهو كتاب المسلمين المقدس الذي يعوق النظر العقلي الحر)(٥٨٦).
وبما أنه يعوق النظر العقلي الحر فيجب هجره وعدم التعويل عليه أو التحاكم له،
ويقول طه حسين: (لا شك أن الباحث الناقد، والمفكر الجريء لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كتاب أدبي آخر)(٥٨٧).
ويقول :(إن الدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي لا كدين إلهي منزل بين الشرائع للبشر، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية، أو أن يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة، فالأمة تتجد بمعزل عن الدين)(٥٨٨).
ويقول نصر حامد أبو زيد :(آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورا قبل أن يجرفنا الطوفان)(٥٨٩)،
وكتب نصر أبو زيد ومحمد أركون الجزائري(٥٩٠) تدور حول هذه القضية وأن القرآن -لو سلمنا بسلامة نصه وأنه من الله- فإن مفهومه ليس إلهيا ولا مقدسا بل هو إنساني(٥٩١)، ولنضرب بعض الأمثلة لكلامهم في هذا الباب :
يقول نصر أبو زيد: (إن القرآن نص ديني ثابت من حيث منطوقه، لكنه من حيث مفهومه يتعرض له العقل الإنساني ويصبح مفهوما يفقد صفة الثبات، ومن الضروري هنا أن نؤكد أن حالة النص الخام المقدس حالة ميتافيزيقية(٥٩٢) لا ندري عنها شيئا، والنص منذ لحظة نزوله الأولى، تحول من كونه (نصا إلهيا) وصار فهما (نصا إنسانيا)؛ لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل، إن فهم النبي ( ﷺ )(٥٩٣) للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري، ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتية للنص، على فرض وجود مثل هذه الدلالة الذاتية...)(٥٩٤)،
ويقول عن القرآن :(كتاب العربية الأكبر وإثرها الأدبي الخالد دون نظر إلى اعتبار ديني)(٥٩٥)، ويقول (إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي )(٥٩٦). ويقول :(منذ نزل القرآن في كلمات عربية أصبح بشريا يجوز الطعن فيه وعليه، وتجوز مناقشته ويجوز فيه ما يجوز على الكلام البشري من خطأ وصواب)(٥٩٧).
وهذا هو أساس المذهب العلماني الذي ينطلق من مبدأ عزل الدين عن السياسة، وينتهي بعزل الدين عن الحياة(٥٩٨).
ثانيا : الرد عليهم:
يحسن فى بداية هذا الرد أن أقرر أن ثمة فرقاً كثيرة من الفرق المنحرفة، فتحت هذا الباب للطاعنين ؛ منها المعتزلة في دعواهم تقديم العقل على النقل(٥٩٩)، ومنها الصوفية في دعواهم أن للقرآن معنى ظاهرا وباطنا، وأن الباطن لا يفهمه إلا كبار مشايخ الصوفية، وأن الكشف والرؤى والمنامات أهم مصادر التلقي عندهم(٦٠٠)، ومنها الشيعة الذين يقدمون قول الأئمة على القرآن(٦٠١).
لذلك كان من أهم ما يميز عقيدة أهل السنة والجماعة ما يسمى بمنهج التلقي (٦٠٢)، فهم يعتمدون في تلقى الأحكام الشرعية على القرآن والسنة والإجماع والقياس، وغيرها من الأدلة التي يذكرها كل من تكلم في علم أصول الفقه، ويعتمدون في الفهم على فهم السلف الصالح للنصوص.
والرد على هؤلاء وهؤلاء كالتالي:
إذا ثبت أن القرآن ليس من عند النبي ( ﷺ )، وأنه من الله تعالى بكل ما فيه من كلمات وحروف-كما أثبتنا هذا في المباحث السابقة- فهو إذن مقدس لا يمكن الاعتراض عليه ولا نقده، فقد أمر الله الناس باتباع الشرع، والأمر يدل على الوجوب ؛ فقال سبحانه :
( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( [يونس: ١٠٩]، فكيف نخالف أمر الله تعالى بأن نتبع غير الوحي؟
ومن أعظم معاني العبادة الرضى به حَكَمًا سبحانه :
(.. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( [يوسف: ٤٠]، فالدين القيم أن تجعل تحاكمك لله، والتحليل والتحريم والتشريع من خصائص الربوبية، ومن جعلها لغير الله فقد اتخذه ندا له سبحانه:
(... إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ( [الأنعام: ٥٧].
والحصر يدل على انفراد الله تعالى بالحكم.
( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( [التوبة: ٣١]
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ :" أَتَيْتُ النَّبِيَّ ( وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ : يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ ". وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ. ( (٦٠٣).
يعني أنهم لم يتخذوهم أربابا لأنهم عبدوهم، بل لكونهم أطاعوهم في التحليل والتحريم.
وقال سبحانه :(.. وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا([الكهف: ٢٦]، فسمى التحاكم لغيره شِركًا(٦٠٤)،
وقال :( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب( [الشورى: ١٠]، وكلمة (شيء) نكرة في سياق النفي وهذا من صيغ العموم، فكل شيء نختلف فيه فالحكم فيه لله، ثم أكد على إرادة العموم بـ(من) التي تفيد التأكيد(٦٠٥).
والله سبحانه لا يحكم ولا يقضي إلا بالحق، فمن رد حكم الله وشرعه فإنما رد الحق ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ... ( [يونس: ٣٢].
قال جل جلاله:( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا... ( [المائدة : ٤٨].
وقال الله تعالى :( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ... ( [النساء: ١٠٥].
وقال سبحانه :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ... ([الإسراء: ١٠٥]، فهو متلبس بلبوس الحق على كل أحواله(٦٠٦).
والله تعالى لا يظلم ولا يحيف في الحكم(٦٠٧) (... أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ( [النور: ٥٠]، فلماذا إذن لا نأخذ حكمه؟
وقال تعالى :( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ([التين: ٨] (.. وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ( [الأعراف: ٨٧]،(... وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ( [المائدة: ٥٠].
فإن كان الله أحسن الحاكمين وخيرهم وأحكمهم، فكيف يعرض المسلم عنه إلى غيره ؟ لذلك قال النبي ( ﷺ ) كما ذكر الله تعالى عنه :( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ( [الأنعام: ١١٤]، يعني وأهل الكتاب يشهدون بفضله ومنزلته وأنه حق.
واتباع الرسالة هو ينبوع السعادة ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
(إن السعادة والهدى في متابعة الرسول، وإن الضلال والشقاء فى مخالفته، وإن كل خير فى الوجود إما عام وإما خاص، فمنشأه من جهة الرسول، وإن كل شر فى العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول أو الجهل بما جاء به، وإن سعادة العباد فى معاشهم ومعادهم باتباع الرسالة، والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة(٦٠٨)، وكذلك العبد ما لم تشرق فى قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة وهو من الأموات قال الله تعالى: ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها( فهذا وصف المؤمن، كان ميتا فى ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورا يمشى به فى الناس، و أما الكافر فميت القلب (في الظلمات)، وسمى الله تعالى رسالته روحاً، والروح إذا عدم فقد فقدت الحياة قال الله تعالى :( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا( فذكر هنا الأصلين وهما الروح والنور، فالروح الحياة، والنور النور.
وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض الى الطب، فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا، أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدا، فلا فلاح إلا باتباع الرسول، فان الله خص بالفلاح أتباعه المؤمنين وأنصاره، كما قال تعالى :( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون( أي لا مفلح إلا هم، فعلم بذلك أن الهدى والفلاح دائر حول ربع الرسالة وجودا وعدما، وهذا مما اتفقت عليه الكتب المنزلة من السماء، وبعث به جميع الرسل.
ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة، وكذلك مسخ من مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك من خسف به وأرسل عليه الحجارة من السماء، وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة وأخذه بأنواع العقوبات، وإنما ذلك بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاءوا به واتخاذهم أولياء من دونه، وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاءوا به، واتبع غير سبيلهم، ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ ؛ لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال تعالى :( إنا منزلون على أهل هذه ال


الصفحة التالية
Icon