المطلب الثاني: زعم تناقض بعض الآيات مع بعض
وهذا الموضوع قد أكثر الطاعنون منه، بناء على القاعدة الجدلية أن التناقض علامة بطلان المذهب(٦٧٣)، ولكن كل ما زعموا فيه التناقض، فهو محض افتراء أو جهل، وقد تكلم العلماء قديما على هذا النوع من الطعون، وجمعوا كل ما قيل في ذلك، ورتبوها على حسب ترتيب سور المصحف وأجابوا على كل ما قيل في ذلك بل وعلى مالم يقل مما يُظن أن فيه إشكالا أو تناقضا، ومن هذه الكتب المؤلفة في هذا الفن :
١-"كتاب تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة الدينوري(٦٧٤)، وهو أقدم كتاب وصل إلينا.
٢-"كتاب المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير" له أيضا(٦٧٥).
٣-"أضواء على متشابهات القرآن"، لخليل ياسين(٦٧٦)، في مجلدين.
٤-"باهر القرآن في معاني مشكل القرآن" لبيان الحق النيسابوري(٦٧٧)، في أربعة مجلدات.
٥-"وضح البرهان في مشكلات القرآن" له أيضا(٦٧٨)، في مجلدين.
٦-"تفسير آيات أَشِْكَلتْ" لابن تيمية(٦٧٩)، في جزأين.
٨-"دفع إيهام الاضطراب"، لمحمد الأمين الشنقيطي(٦٨٠).
٩-"مشكلات القرآن"، لمحمد أنور شاه الكشميري(٦٨١).
١٠-"الروض الريان في أسئلة القرآن"، لشرف الدين بن ريان(٦٨٢).
وغير ذلك من الكتب الكثيرة، التي لو جُمِعَ كل ما فيها لكان مجلدات كثيرة، وإنما قَصَدتُ بذكر هذه الكتب بيان أن هذا الطعن قد قًُِتلَ بحثا، وأجيب عن كل ما قد قيل أو يمكن أن يقال فيه، ومع هذا لا زال أعداء الدين ينعقون بهذه الطعون ويرددونها، مما يدلك على عدم حرصهم على اتباع الحق، أو إنما القصد هو إضلال بسطاء المسلمين ممن لم يقرؤوا هذه الكتب، والله المستعان.
يقول جولدتسيهر(٦٨٣):(من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه مذهبا عقيديا(٦٨٤)موحدا متجانسا وخاليا من المتناقضات، ولم يصلنا من المعارف الدينية الأكثر أهمية وخطرا، إلا آثار عامة نجد فيها -إذا بحثناها في تفاصيلها-أحيانا تعاليماً متناقضة)(٦٨٥).
وسنذكر إن شاء الله في هذا المبحث بعض ما ذكر من شبهات في هذا العصر(٦٨٦) والجواب عليها بإذن الله.
الطائفة الأولي : طعون ذُكرت في كتاب "رد مفتريات على الإسلام"، لعبد الجليل شلبي، ورد فيه على رسالتين تطعنان في القرآن ؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية، وموقعة باسم الأسقف العام، ورئيس المجلس، والنائب العام البابوي تيموثاوس(٦٨٧)، والطعون التي ذكروها كالتالي :
١-في سورة يونس :( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ... ( [يونس: ١٥]، وفي سورة النحل :( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قل نزله روح القدس من ربك بالحق ( [النحل: ١٠١].
ففي الآية الأولى طُلب منه التبديل فرفض، والآية الثانية تم التبديل(٦٨٨).
والجواب(٦٨٩) :
أن التبديل في الآية الأولىكان بطلبٍ من الكفار لرسوله ( أن يأتي بقرآن جديد أو يبدل هذا القرآن ورسول الله ( ﷺ ) يقول لا أستطيع، فذلك كلام الله ينسخ منه سبحانه ما يشاء ويثبت ما يشاء، وأنا أتبع ما يوحى إليَّ نسخا أو إثباتا.
والآية الثانية تذكر أن الله سبحانه إذا نسخ حكما بحكم قال الكفار لمحمد : أنت مفتر في هذا القرآن؛ لأنك غيرت حكماً قررته من قبل، ثم تقرر الآية التالية أن ذلك من الله تعالى، نزله الله بواسطة جبريل روح القدس، ومحمد لا يغير.
فأي تناقض بين الآيتين ! كلتاهما تثبت أن القرآن من عند الله، وأن محمداً ( لا يستطيع أن يغير منه شيئاً.
٢- الآية ١٠٦من سورة البقرة تُناقِضُ الآية ٢٧ من سورة الكهف، والآية في سورة البقرة هي :( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( [البقرة: ١٠٦]والآية في سورة الكهف :( واتل ما أُيوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته.. ( [الكهف: ٢٧].
فالآية الثانية تخبر أن كلمات الله لا تبدل، والأولى تخبر أنها تنسخ وتنسى، والنسخ نوع تبديل(٦٩٠).
الجواب(٦٩١) :
الآية الأولى تتحدث عن نسخ الأحكام وتغيير حكم بآخر، وهذا أمر لا بد منه في حال أمة جاهلية نقلها الإسلام تدريجيا إلى حال جديدة متكاملة، والآية الثانية تذكر أنه لا أحد غير الله يستطيع أن يبدل كلماته، أو يرد حكما أنزله سبحانه، والطاعنون لم يفهموا النص فظنوه تناقضا، وكلتا الآيتين توضح أن الله وحده يمحو ما يشاء ويثبت، تماما كالآية السابقة قلتُ: التبديل يطلق على تبديل الأحكام، وهذا سائغ، ويطلق على تبديل الأخبار، وهذا الذي لا يمكن في القرآن، فكل آية لها مورد(٦٩٢)، فالنسخ والتبديل يكونان في الأحكام لا الأخبار.
٣- الآية ٩ من سورة الحجر تناقض الآية ٣٩ من سورة الرعد:
وآية الحجر هي :( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ( [الحجر: ٩]، وآية الرعد هي :( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.. ( [الرعد: ٣٩]، يعني كيف يجتمع الحفظ مع المحو(٦٩٣) ؟.
الجواب(٦٩٤) :
آية الحجر تصف القرآن أنه تنزيل من الله تعالى، وأن الله حافظه من الزوال والتحريف، وصدق الله وصدق قرآنه، فالمسلمون بعد أربعة عشر قرنا يقرأون القرآن غضا طريا صريحا صحيحا كما أنزله الله تعالى، وكما قرأه محمد ( ﷺ ) على أصحابه، فأين كتاب موسى وأين وصاياه، وأين إنجيل عيسى ؟ هذه كتب لم يحفظها الله تعالى فذهبت مع الأيام، والقرآن لم يضع منه شيء ولن يضيع.
وأما آية الرعد تذكر أن الله يمحو أحكاما ويثبت أخرى، ويمحو مقادير ويثبت غيرها، أفي هذا تضارب ؟
قلتُ: آية الرعد ليست في القرآن، بل المراد منها الصحف التي بيد الملائكة التي فيها مقادير الخلق، فإن الله تعالى يغيرها حسب مشيئته وحكمته، واختلف العلماء في ذلك ولكن كل الخلاف دائر في باب القدر(٦٩٥)، ولو سلمنا أن آية الرعد في القرآن، فإن المقصود بالمحو والإثبات هو في وقت حياة النبي ( ﷺ )، وأما بعد اكتمال القرآن وموت النبي ( ﷺ )، فإن الله يحفظ القرآن ويصونه.
٤- السجدة آية ٥ - تناقض المعارج آية (٤ ):
وآية السجدة هي :( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ( [السجدة: ٤]، وآية المعارج هي :( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( [المعارج: ٤]، يعني أن ألف سنة في الآية تناقض خمسين ألف سنة في الآية الأخرى(٦٩٦).
الجواب(٦٩٧) :
إن الآية تصف يوم القيامة بالطول، وأنه في طوله يعدل ألف سنة مما يعدل الناس، ولا يراد منها إفادة التكثير، كما تقول لصاحبك كتبت لك خمسين خطابا، وترددت على بيتك عشرين مرة، واللغويون يقولون دائما : العدد لا مفهوم له.
فإذا وَصَفَت الآية الثانية هذا اليوم بأن مقداره خمسين ألف سنة فلا تناقض لأن كلا منهما تصفه بالطول، وقيل : وهذا اليوم يختلف مع الناس باختلاف مواقفهم وما يعانيه كل منهم، فقد يطول اليوم على شخص لشدة مشقته، ويقصر على آخر لعدم المشقة.
قلت: إن الآيتين ليستا على مورد واحد، بل الأولى تتحدث عن أمر لا تتحدث عنه الأخرى، فالآية الأولى تتحدث عن مدة يوم معراج الأوامر ومدته ألف سنة(٦٩٨)، والثانية تتحدث عن يوم القيامة ومدته خمسين ألف سنة، كما هو ظاهر من السياق:( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ(*)لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ(*)مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ(*)تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ(*)فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا(*)إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا(*)وَنَرَاهُ قَرِيبًا(*)يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ(*)وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ(*)وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا([المعارج: ١-١٠]، وهو القول الراجح فقد ذكر ابن كثير أربعة أقوال في المراد من اليوم ومال إلى أن المراد به يوم القيامة(٦٩٩)، وهو الراجح بدليل ما أخرجه مسلم عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) :« مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ... » (٧٠٠).
وقد ذكر العلماء أجوبة كثيرة وغالبها وجيه، وقد سُئل ابنُ عباس عن هذه الآية وأجاب عنها(٧٠١)، ومع هذا لا زال هذا الإشكال يكرر إلى يومنا هذا.
٥- سورة البلد وسورة والتين :
سورة البلد جاء فيها :( لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ( [البلد: ١-٢]، وسورة التين فيها :( والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين ( [التين: ١-٣] ؛فكيف قال : لا أقسم بهذا البلد ثم أقسم به(٧٠٢) ؟.
الجواب(٧٠٣) :
فَهِمَ القومُ -وهم كما يدل أسلوبهم وكتابتهم علماء جدا في اللغة - أن (لا) في (لا أقسم) نافية، وهذا جهل بلغة العرب، وإنما تأتي لا في القسم توكيدا وهذا شائع في اللغة، كما في قوله تعالى :( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم.. ( أي أقسم بربك أنهم كذلك، وكما قال النابغة :
فَلاَ وَحًقَّ الَّذِي مَسَّحْتً كَعْبَتَهُ وَمَا هُرِيقً عَلَى الأنْصَابِ مِنْ جَسَدِ
وقول الآخر :
فَلاَ وَاللهِ لاَ يُلْقَى لمَاِبى وَلاَ لمِّا ِبهمْ أبَداً دَواءُ
وقول طرفه :
فَلاَ وَأَبِيكَ ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر
وقال علماء اللغة : إن هذا القسم يفيد تعظيم المقسوم به، كما في سورة البلد، وكما في قوله تعالى :( فلا اقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم أنه لقرآن كريم ( [الواقعة: ٧٥-٧٧]، وكقوله :( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ( [القيامة: ١-٢]، فهذه كلها أقسام وليس هذا من دقائق اللغة وإنما هو من أولياتها ولكن القوم لا يعلمون.
وإذا اعتبرت (لا) نافيه والجملة خبرية فهي مقيدة ؛ أي لا أقسم به و أنت حل به، ولكن أقسم به وأنت غير حل به، فلا تناقض أيضاً.
٦-قوله تعالى :( قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون ( [الزمر: ٤٤]، مع قوله: ( مالكم من دونه من ولي ولا شفيع، أفلا تتذكرون ( [السجدة: ٤] وقوله: ( يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ( [يونس: ٣].
هذه الآيات متناقضة في رأي تيموثاوس(٧٠٤).
الجواب(٧٠٥) :
الآيات الثلاث تذكر أن الله وحده هو المتصرف في خلقه، ولا يشفع عنده إلا من أذن له، لله وحده الشفاعة، لا شفيع من دونه ولا بغير إذنه.. فأي تناقض بين هذه الآيات ؟ أليست الشفاعة في هذا كله لله وحده ؟ أفلا تذكرون ؟.
قلت: نفى الله تعالى الشفاعة الشركية التي يعتقدها المشركون في معبوداتهم، وأثبتها له وحد، ولمن يأذن له فيها، فهو سبحانه ينفيها في حال ويثبتها في حال آخر.
٧-في سورة الواقعة جاء مرة :( ثلثة من الأولين وقليل من الآخرين ( [الواقعة: ١٣-١٤]، ثم جاء مرة أخرى( ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ( [الواقعة: ٣٩-٤٠].
فهذا تناقض عند تيموثاوس ومج