المبحث الرابع : اتهام القرآن بمعارضة الحقائق
المطلب الأول : دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الشرعية :
-الطعن الأول: كيف تزعمون أن محمدا ( اصطفاه الله للرسالة وهيئه، مع وصفه له بالضلال(٧٥٥)، فهو كقومه كان وثنيا، ( ووجدك ضالا فهدى ( [الضحى: ٧]؟
-الجواب:
١-(قيل إن العرب كانت إذا وجدت شجرة منفردة في فلاة من الأرض لا شجر معها سموها ضالة، فتهتدي بها على الطريق، فقال الله تعالى لنبيه: ( ووجدك ضالا فهدى ( أي وجدك لا أحد على دينك فهديت بك الخلق إلي)(٧٥٦)، ومن هذا قول :(الحكمة ضالة المؤمن).
أي أن الضلال هنا المقصود به الحقيقة اللغوية لا الشرعية، إذ لم يكن في ذلك الوقت شرع، وبعض المعاني اللغوية معنى جميل كما رأيت.
٢-وقيل: إنه من قولك: ضللت الطريق. أي لم تعرفه(٧٥٧)، ومنه قولهم: ضالة الإبل والغنم. يعني التي لم تهتد لقومها، فالنبي ( ﷺ ) كان موحدا عارفا بالله بفطرته وعقله، ولكنه لم يعرف كيف يعبده؛ لأنه لم ينزل عليه شرع، فهو ضال بهذا المعنى، أي لم يعرف طريق العبادة الصحيحة.
قال الراغب :(الضلال ترك الطريق المستقيم ؛ عمدا كان أو سهوا، قليلا كان أو كثيرا، ويصح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نسب إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بون بعيد، ألا ترى أنه قال في النبي :( وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى( [الضحى: ٧]، أي غير مهتد لما سبق إليك من النبوة، وقال في يعقوب :( قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ( [يوسف: ٩٥]، وقال أولاده: ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( [يوسف: ٨] إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، وكذلك ( قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( [يوسف: ٣٠]، وقال عن موسى عليه السلام: ( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ( [الشعراء: ٢٠] تنبيه أن ذلك منه سهو، وقوله: ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا... ( [البقرة: ٢٨٢]، أي تنسى وذلك من النسيان الموضوع على الإنسان، والضلال من وجه آخر ضربان ؛ ضلال في العلوم النظرية، كالضلال في معرفة الله ووحدانيته، ومعرفة النبوة ونحوهما، المشار إليهما بقوله:( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ( [النساء: ١٣٦]، وضلال في العلوم العملية، كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات)(٧٥٨)، وهذا النوع يعذر فيه الإنسان إذا لم يبلغه، ألا ترى أن زيد بن عمرو بن نفيل(٧٥٩) دخل الجنة مع أنه لم يعرف كيف يعبد الله تعالى، فقد أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ( : أَنَّ النَّبِيَّ ( لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ( الْوَحْيُ، فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ ( سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ : إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَ يَقُولُ : الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الْأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ. إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ)(٧٦٠).
وأخرج البخاري أيضا عَنْ ابْنِ عُمَرَ ( : أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ : إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي؟ فَقَالَ : لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ. قَالَ زَيْدٌ : مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ، اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ : مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ زَيْدٌ : وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ : دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ : لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. قَالَ : مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟ قَالَ : مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا. قَالَ : وَمَا الْحَنِيفُ ؟قَالَ : دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام، خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدكُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ اللَّيْثُ : كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ : رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، يَقُولُ : يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي. وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ : لَا تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ، قَالَ لِأَبِيهَا : إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا(٧٦١)،
وأخرج الإمام أحمد عَنْ نُفَيْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) بِمَكَّةَ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَمَرَّ بِهِمَا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، فَدَعَوَاهُ إِلَى سُفْرَةٍ لَهُمَا، فَقَالَ : يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. قَالَ : فَمَا رُئِيَ النَّبِيُّ ( بَعْدَ ذَلِكَ أَكَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي كَانَ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ وَبَلَغَكَ، وَلَوْ أَدْرَكَكَ لَآمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَكَ، فَأسْتَغْفِرْ لَهُ: قَالَ« نَعَمْ » فَاَسْتَغْفِرُ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحِدَه) (٧٦٢)، وذكر ابن حجر في الإصابة أن الواقدي والفاكهي أخرجا بإسنادهما عن عامر بن ربيعة في حديث طويل، وفيه أن النبي ( ﷺ ) قال :«قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا» (٧٦٣).
فزيد بن عمرو مع جهله بطريق العبادة، إلا أن فطرته دلته على وجود الله، وعقله هداه إلى توحيد الله، فكان يعبد الله على حسب اجتهاده، فهو مع ضلاله عن طريق العبادة الصحيحة، إلا أنه كان معذروا لذلك أدخله الجنة، ومن هذا الباب معنى قوله تعالى :
( ووجدك ضالا فهدى (. أي ضالا عن طريق العبادة الصحيحة فدلك عليها له وإن كان عارفا بالله موحدا له.
٣-ثم إننا نلزمهم بأمر وهو : هل هم يقولون هذا أيضا في موسى عندما قال عن نفسه، (فعلتها إذاً وأنا من الضالين ( [الشعراء: ٢٠].
٤-ثم إننا لو تنزلنا لهم وسلمنا لهم بالمعنى الذي يريدون، فإن هذا لا يضره؛ فهو معذور بعدم العلم فهو إذ لم يضل عن علم بل ضل بغير علم، وهذا لا حرج عليه ولا مؤاخذة فيه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما وجوب كونه ( قبل أن يبعث نبيا لم يخطئ أو لا يذنب فليس في النبوة ما يستلزم هذا)(٧٦٤).
ولكن الحرج كل الحرج فيمن يعرف العلم والهدى ثم يتركه، كما هو حال اليهود والنصارى الذين يعرفون النبي ( ﷺ )كما يعرفون أبناءهم.
-الطعن الثاني: كيف سُحِرَ النبي ( ﷺ ) مع أن الله تعالى يذكر كلام الكفار، ووصفهم النبي بالمسحور في مقام الذم في قول الله على ألسنتهم :( إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( [الفرقان: ٨].
-الجواب:
هذا الشبهة تردد كثيرا، وللأسف يرددها كثيراً من المعاصرين من العلمانيين، ومن أصحاب المدرسة العقلية، وممن يعلم صلاحه ويظهر حبه للدين(٧٦٥).
-الجواب:
أولا : لابد - أولاً - أن نعرف أن حديث سحر النبي ( ﷺ ) ثابت في الصحيحين، وقد تقدم معنا النقل عن ابن الصلاح، وهو أن ما كان في الصحيحين قد تلقته الأمة بالقبول(٧٦٦)، ونص الحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سُحِرَ النَّبِيُّ ( حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ -وفي رواية : وأنه يأتي أهله ولا يأتي- حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ :« أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ »، قُلْتُ : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ :« جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ : مَطْبُوبٌ. قَالَ : وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ -الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ- قَالَ : فِيمَا ذَا قَالَ : فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ : فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَ : فَذَهَبَ النَّبِيُّ ( فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ :"وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَ هَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ». قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ قَالَ :« لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي، وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا ». وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ )(٧٦٧).
فظاهر من الحديث أن السحر كان في الأمور الدنيوية فهو يخيل إليه أنه أتى أهله ولكنه لم يفعل ويخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله(٧٦٨)، وأما الأمور الشرعية والوحي، فإنه محفوظ من الخطأ فيها، كما ثبت في النصوص الكثيرة، كقوله تعالى: ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( [النجم: ٣-٤]. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا : أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ ( ﷺ ) بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ( ﷺ ) فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ :« اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِ