المطلب الثاني : دعوى تعارض القرآن مع الوقائع التاريخية :
وقد أشعل أوار هذه الفتنة، وحمل رايتها محمد خلف الله في كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم "، وإن كان هو لم يبتدعها بل أخذها من المستشرقين و منهم :
المستشرق الألماني هوروفيتش(٧٨٠) (١٨٧٤-١٩٣١) الذي تحتوى بحوثه القرآنية على طائفة كبيرة من الملاحظات والمعلومات، والجزء الأول من كتابه "مباحث قرآنية" يعالج النصوص القصصية في القرآن ويقسم كلامه إلى : عموميات وشكليات، أساطير رادعة... إلخ. والأستاذ بروكلمان(٧٨١) الذي أورد بعض العناوين البارزة لموضوعات كتبت في قصص القرآن وهي تاريخيا كما يلي:
١-الهجادة في قصص القرآن، بقلم سجبار، ليبزيج ١٩٠٧م.
٢-مصادر القصص الإسلامية في القرآن وقصص الأنبياء، بقلم سايدر سكاي، باريس، ١٩٣٢م.
٣-القصص الكتابي في القرآن، بقلم سباير وجريفنا ينخن، ١٩٣٩م.
وبعد هذا نجد المستشرق المجري بيرانت هيللر (١٨٥٧-١٩٤٣م)يتخصص تقريبا في جزء من قصص القرآن، فينشر بحوثا في مجلة الفصول بعنوان :
١-قصة أهل الكهف، عام ١٩٠٧.
٢-عناصر يهودية في مصطلحات القرآن الدينية، ١٩٢٨م.
٣-قصص القرآن، عالم الإسلام، ١٩٣٤م(٧٨٢).
ثم جاء المعاصرون بعد ذلك - و للأسف من بني جلدتنا - ليكملوا المشوار، ونفذوا تلك الأباطيل بأقوال تنبأ عن سوء طوية وفساد قصد، تلك هي أقوالهم :
يقول طه حسين: ( للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة وبالقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي)(٧٨٣).
ثم قام محمد خلف الله بجمع كل هذه المغالطات، وما أوردوه من شبه على هذه القضية وسود فيها كتابا من خمسمائة صفحة وسماه "الفن القصصي في القرآن الكريم"(٧٨٤)، ووافقه على هذا أمين الخولي وزوجته عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)(٧٨٥).
قدم خلف الله مقدمة في بيان أن هناك فنا من الفنون، هو ما يسمى بالفن القصصي، وهذا الفن يُعتمد فيه على جمال الأسلوب، وترابط الفكرة مع الهدف النبيل من القصة، ولا يضير هذا الفن كون القصة ملفقة أو خيالية مادام أن الهدف نبيل والغاية نافعة، ثم بنى على هذه المقدمة أن قصص القرآن هي نوع من أنواع هذا الفن في جميع صفاته، لذلك فلا يلزم أن تكون كل قصة يذكرها القرآن قصة واقعية، ثم بعد ذلك أخذ يقرر هذه الدعوى بأن الكثير من القصص القرآنية ليست صحيحة تاريخا، بل التاريخ يخالفها.
وقد طرح خلف الله كلامه بكل جرأة، حتى إنه لم يجد ضيرا أن يقول ما قال الكفار ( حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ( [الأنعام: ٢٥]
قال خلف الله :(إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير)(٧٨٦).
وقال :(أصبح العقل الإسلامي غير ملزم بالإيمان برأي معين في هذه الأخبار الواردة في القصص القرآني ؛ وذلك لأنها لم تُبلغ على أنها دين يتبع... ومن هنا يصبح من حق العقل البشري أن يهمل هذه الأخبار، أو يجهلها، أو يخالف فيها، أو ينكرها)(٧٨٧). ثم لم يقتصر على ذلك حتى قال :(ومن هنا يصبح من حقنا، أو من حق القرآن علينا، أن نفسح المجال أمام العقل ليبحث و يدقق، و ليس عليه من بأس في أن ينتهي من هذه البحوث إلى ما يخالف هذه المسائل، و لن تكون مخالفة لما أراده الله أو لما قصد إليه القرآن ؛ لأن الله لم يرد تعليمنا التاريخ، و لأن القصص القرآني لم يقصد إلا إلى الموعظة و العبرة، و ما شابهها من مقاصد و أغراض، إن المخالفة هنا لن تكون إلا مخالفة لما تتصوره البيئة و لما تعرفه عن التاريخ، و لم يقل قائل بأن ما تعرفه البيئة العربية عن التاريخ هو الحق و الصدق، و لم يقل بأن المخالفة لما في أدمغة العرب من صور عن التاريخ هي الكفر و الإلحاد، بل لعل هذه المخالفة واجبة حتى يكون تصحيح التاريخ و خلوه من الخيالات و الأوهام)(٧٨٨).
فمخالفة القرآن عنده واجبة لأجل التاريخ، فتصحيح التاريخ عنده أهم من تصحيح القرآن.
فانظر إلى هذا الهذيان الذي تشمئز منه نفوس المسلمين وتقشعر منه جلودهم، ولست في مقام الرد على هذا الكتاب وكل مغالطاته، بل إنما أريد الرد على هذه القضية وهي دعوى معارضة القرآن للحقائق التاريخية، وسوف أقسم الرد على نوعين، ردود إجمالية ثم الردود التفصيلية، وإليك البيان(٧٨٩):
-الردود الإجمالية:
١-هذه الدعوى مخالفة لإجماع الأمة على أن كل القصص في القرآن إنما تحكي واقعا حقيقيا(٧٩٠).
٢-هناك نصوص ترد هذه الدعوى، بل هي في محل النزاع، كقوله تعالى :( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( [يوسف: ١١١]، قوله سبحانه :( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ... ( [الأعراف: ٦٢]، وكقوله تعالى :( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( [الأنعام: ١١٥]، أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام(٧٩١).
كل ما في القرآن إما أخبار أو أحكام، فكل أخباره صدق وكل أحكامه عدل، ومن الأخبار قصص الأمم السابقة مع أنبيائها.
٣-لا شك أن القصة من أهدافها العبرة، وأحيانا قد يختلق القاص القصة وينسخها من وحي خياله، لكن هذا ليس هو الكمال ؛ فكون الراوي يأخذ العبرة من قصة واقعية هو الأكمل، والقرآن لا يأتي إلا بالكمال، كما قال سبحانه :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ( [يوسف: ٣]، وما كان لأحسن القصص أن تكون كذبا.
٤- قال الدكتور بلتاجي :(إن الله تعالى -وهو القادر الحق - أعظم من أن يلجأ في كتابه المنزل -الذي أنزله لهداية الخلق جميعا - لاستخدام الباطل والأكاذيب ليجتذب بها العرب من معاصري نزوله إلى الإيمان، وهو يعلم أن هذا الكتاب سيؤمن به غيرهم في أزمنة وأمكنة أخرى، فما هي نسبة العرب الذين عاصروا نزول القرآن -وأتى بما عندهم من أساطير وأوهام كما زعموا- إلى من أسلم ويسلم في كل عصر ومكان حتى يرث الله الأرض ومن عليها، و هل يصح مثل هذا القول إلا بناء على عقيدة ترى أن الإسلام (دين محلي)، نزل إلى شبه الجزيرة في القرن السابع الميلادي، و اجتذبهم إلى الإيمان بموافقته لما كان عندهم من أوهام و خيالات و أباطيل تخالف التاريخ الحق ؟ وهل يعقل أن الله تعالى لم يعلم حال من سيؤمن بالقرآن من غير هؤلاء، ممن تتكشف لهم حقيقة هذه ( الأوهام ) - كما زعم أصحاب النظرية ؟! وألا يقودنا القول بذلك إلى سؤال بالغ الأهمية هو : كيف يلجأ الخالق - جل و علا عما يقولون - إلى موافقة خيالات و أوهام العرب الجاهلين وقت نزوله، و هو القادر - بطريق القطع - على أن يصوغ كتابه المنزل من الحقائق المتفقة مع الواقع والتاريخ، التي تحدث أثرها من الموعظة و العبرة في نفس الوقت ؟ و ألا يشبه هذا الزعم الذي تتضمنه هذه النظرية أن يكون حيلة بشرية يلجأ إليها البشر الضعاف المحدودو القدرة و العلم في سبيل اجتذاب الناس إلى دعواتهم ؟ أما أن يكون هذا أسلوباً إلهياً في تنزيل آخر الكتب المنزلة، فهذا ما لا يمكن أن تتصوره العقول من كل وجه)(٧٩٢).
٥-دأب العلماء على أخذ الكثير من الأحكام الفقهية من القصص القرآنية مثل صحة أنكحة الكفار المأخوذ من قوله تعالى: ( وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ... ( [القصص: ٩]، وجواز كون المهر عملا مأخوذ من قوله تعالى ( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ... ( [القصص: ٢٧] وغيرها، بل أخذوا منها أحكاما عقدية في أصول اعتقاد المسلمين، فإبطال القصص القرآنية يبطل الكثير من الأحكام ؛لأنه إذا كانت القصة مكذوبة فلا يجوز أخذ الأحكام منها، وهذا لم يقل به أحد.
٦-يلزم من هذا القول أن الله تعالى لَبَّس على الناس بذكر هذه القصص المكذوبة في كتابه، الذي يزعم أنه محفوظ من الخطأ والريب والكذب، ويلزم منه أن القرآن صد الكثير من الناس عن الإسلام بسبب عدم مطابقة قصصه للواقع، بل هذا ما ادعاه خلف، حيث زعم أن التمسك بمقياس الصدق التاريخي في القصص القرآني خطر أي خطر على النبي ( ﷺ ) و على القرآن، بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة(٧٩٣).
٧-قال الشيخ شلتوت: (وهذه الآراء -فضلا عما لها من نتائج سيئة - تذهب بقدسية القرآن من النفوس، وتزيل عنه روعة الحق، وتزلزل قضاياه في كل ما تناوله من عقائد وتشريع وأخبار ماضية وأحوال مستقبلة)(٧٩٤).
٨-يقول تعالى :( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ( [ فصلت : ٤١، ٤٢ ]. فإذا كان المضمون التاريخي في القصص القرآني - كما يزعم خلف الله و أصحابه - باطل في الحقيقة، و نفس الأمر مطابقاً لما كان في نفوس المشركين أو غيرهم، ألا يكون هذا معارضاً معارضة صريحة لمضمون هذه الآية، التي تنفي إمكان أن يقتحم الباطل إليه من بين يديه و لا من خلفه؟، فإذا أضفنا إلى هذا قوله تعالى :( و قال الذين كفروا إن هذا إلا إفكٌ افتراه و أعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً و زوراً و قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً و أصيلاً قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات و الأرض إنه كان غفوراً رحيماً (
[ سورة الفرقان الآيات : ٤ - ٦ ]، فهل يبقى هناك أي وجه لما ذكره خلف الله ؟ من محاولة العبث بالعقول، ما يذكره خلف الله من أن نفي الافتراء هنا يتعلق بمصدر القرآن كله، لا بجزئياته ! فهل يصح في منطق العقول حقاً أن ما ينطبق على الكل المجموع لا يندرج على جزئيات هذا الكل ؟!. و من العجب أن يثبت خلف الله في كلامه السابق أن في القرآن أساطير، و الآية السابقة تحكي قول الذين كفروا في ذلك، ثم تعقب عليه بأن الذي أنزل هذا القرآن إنما هو الذي يعلم السر في السماوات و الأرض، و في هذا أبلغ بيان في نفي زعم الأسطورة عنه ؛ لأن الذي يعلم حقائق الأمور في كل شيء، لا يجوز عليه أن يحكي في كتابه المنزل الأساطير و الأباطيل على أنها هي الحق الذي لا يأتيه الباطل، إنما يقع في هذا ناقصو العلم و المعرفة من البشر، الذين لا علم لهم بحقائق و أسرار الكون.
٩-و هذا المعنى الأخير مصداق قوله تعالى :( أفلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا ( [ سورة النساء الآية ٨٢ ] يعني - و الله تعالى أعلم - لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً مع حقائق الأمور التاريخية و الكونية، و لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا بعضهم مع بعض، و لوجدوا فيه اختلافا كثيرا مع الفطرة البشرية، لكنه لما كان من عند الله فقد تجرد عن ذلك كله، فليس فيه أي اختلاف مع شيء من ذلك، لكن خلف الله و أصحابه يزعمون أن في قصصه اختلافا مع الحقائق التاريخية و الكونية، فهل يستقيم مع هذا القول أن يكون فيما صدروا عنه من عند الله ؟!.
١٠-وما قولهم في قوله تعالى :( ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (
[ سورة السجده الآيات : ١-٣ ]، فرد على دعوى الافتراء بإثبات أنه هو الحق من الله، فهل يتمشى مع منطق العقل أو أساليب البيان أ


الصفحة التالية
Icon