المطلب الثالث : دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الكونية أو حقائق العلم التجريبي :
من المطاعن على القرآن دعوى أنه يتعارض مع الحقائق الكونية أو حقائق العلم التجريبي الحديث، وعليه فإن القرآن ليس من كلام الله تعالى ؛ لأن الله جل جلاله يعلم كل شيء، وقد ذكر الطاعنون لهذا أمثلة سيأتي ذكرها.
بادئ ذي بدأ لابد من وضع بعض القواعد لهذه المسألة :
١- لابد أن تكون هذه المعلومات التجريبية وصلت مرحلة الحقيقة العلمية المستقرة المتفق عليها(٨٢٠)، فلا يجوز أن نجادل القرآن بنظريات تفسيرية لبعض ظواهر الكون، أو أن القضية العلمية عبارة عن تجارب لم تصل إلى حد الحقيقة الثابتة القطعية، مثل نظرية أن أصل الإنسان قرد ثم مر بمراحل حتى وصل إلى هذا المستوى(٨٢١)، التي تتعارض مع كون ابتداء خلق الناس كان من آدم الذي خلقه الله تعالى مرة واحدة من غير تدرج.
٢-لابد أن يكون هذا التناقض من كل وجه بحيث لا يحتمل حمل اللفظ على معنى آخر، فإن دلالة القرآن الظنية المعنى مما يمكن حملها على عدة معان(٨٢٢)، ومن هذه المعاني معان لا تخالف العلم، مثل دعوى أن الأرض تدور حول الشمس، المناقض لقوله الله تعالى :( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن..( فنسب فعل الدوران للشمس، وهذا غير صحيح ؛ فإن اللفظ ليس قاطعا في هذا المعنى، بل إنه ابتدأ بقول :(وترى الشمس( أي أن هذا الأمر بالنسبة لرؤية الإنسان، وسياق الآية كما هو ظاهر ليس مقصودا في إثبات دوران الأرض حول الشمس أو العكس، فلا ينبغي تحميل النص ما لا يحتمل.
فإذا كانت المسألة في حقيقة علمية ثابتة، وهى تعارض نصا قرآنيا من كل وجه، فهنا تحصل المناقضة.
وكعادتنا نبدأ أولا بالردود الإجمالية ثم التفصيلية :
١-أن العلم والقرآن لا يمكن -عقلا- أن يتعارضا ؛ وذلك لأن مصدرهما واحد وغايتهما واحدة، فمصدرها هو الله سبحانه وتعالى، فالله هو الذي خلق هذا الكون وما فيه من معارف وعلوم، وهو الذي شرع هذا الدين وما فيه من أخبار وأحكام، وما كان من الله فإنه لا يتناقض، (فالقرآن والكون - وهما مصدر الحقائق الدينية والعلمية - كلاهما من عند الله وصنعه، أنزل القرآن بالحق كما خلق الكون بالحق، فلا ينبغي للإنسان طلب الحق إلا فيهما، ومن ثم لا يتصور تصادم الحق مع نفسه)(٨٢٣).
ويتفقان أيضا في الغاية والهدف، وهو إسعاد البشرية وتذليل صعوبات الحياة، فما اتفق في المصدر والغاية لا يمكن أن يتعارضا فيما بين ذلك، فالعلم الصحيح لا يعارض القرآن، بل هما أخوان متعاونان(٨٢٤).
٢-إن المنصفين من أهل الملل الأخرى شهدوا بأن القرآن لا يتعارض مع العلم أبدا.
يقول إبراهيم خليل :( يرتبط هذا النبي ( ﷺ ) بإعجاز أبد الدهر بما يخبرنا به المسيح -عليه السلام- في قوله عنه :(ويخبركم بأمور آتية). وهذا الإعجاز هو القرآن الكريم، معجزة الرسول الباقية ما بقي الزمان، فالقرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كل مناحيه ؛ من طب وفلك وجغرافيا وجيولوجيا وقانون واجتماع وتاريخ… ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف.. )(٨٢٥)، وقال :(أعتقد يقينا أني لو كنت إنسانا وجوديا، لا يؤمن برسالة من الرسالات السماوية، وجاءني نفر من الناس، وحدثني بما سبق به القرآن العلم الحديث في كل مناحيه ؛ لآمنت برب العزة والجبروت، خالق السماوات والأرض ولن أشرك به أحدا)(٨٢٦).
وقال بوتر :(عندما أكملت قراءة القرآن الكريم، غمرني شعور بأن هذا هو الحق، الذي يشتمل على الإجابات الشافية حول مسائل الخلق وغيرها، وإنه يقدم لنا الأحداث بطريقة منطقية، نجدها متناقضة مع بعضها في غيره من الكتب الدينية، أما القرآن فيتحدث عنها في نسق رائع وأسلوب قاطع لا يدع مجالاً للشك بأن هذه هي الحقيقة، وأن هذا الكلام هو من عند الله لا محالة )(٨٢٧).
وقال بوتر أيضا :(كيف استطاع محمد ( ﷺ )، الرجل الأمي الذي نشأ في بيئة جاهلية، أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها ؟ لابد إذن أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عز وجل )(٨٢٨).
وقال حتي :(إن أسلوب القرآن مختلف عن غيره، ثم إنه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر، ولا يمكن أن يقلد، وهذا في أساسه، هو إعجاز القرآن.. فمن جميع المعجزات كان القرآن المعجزة الكبرى)(٨٢٩).
ولقد ألف الدكتور مراد هوفمان -سفير ألمانيا السابق بالرباط- كتاب (الإسلام كبديل)(٨٣٠)، وفيه شهادات كثيرة على إعجاز القرآن وصدقه وصدق النبي ( ﷺ ) وكمال التشريع.
ومن الذين تخصصوا في هذا المجال، وكان من أشد الناس عداوة للقرآن والرسول( الدكتور موريس بوكاي، وكان كلما جاءه مريض مسلم يحتاج إلى العلاج الجراحي، فإنه إذا أتم علاجه يقول له : ماذا تقول في القرآن، هل هو من الله أنزله على محمد أم من كلام محمد نسبه إلى الله افتراء عليه؟ فإذا أجاب المريض بأنه من الله، وأن محمدا ( صادق، قال : أنا أعتقد أنه ليس من الله وأن محمدا ليس بصادق. وبقي على ذلك زمانا حتى جاءه الملك فيصل بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية الراحل، يقول بوكاي : فعالجته جراحيا حتى شفي، فألقيت عليه نفس السؤال، فقال لي : هل قرأت القرآن ؟ فقلت : نعم مرارا وتأملته. فقال لي : بلغته أم بترجمة ؟ فقلت : بالترجمة. فقال : إذن أنت تقلد المترجم، والمقلد لا علم له ؛ إذ لم يطلع على الحقيقة، لكنه أخبر بشيء فصدقه، والمترجم ليس معصوما من الخطأ والتحريف عمدا، فعاهدني أن تتعلم اللغة العربية وتقرأ القرآن بها وأنا أرجو أن يتبدل اعتقادك الخاطئ هذا. قال : فتعجبت من جوابه، ووضعت يدي في يده وعاهدته على ألا أتكلم في القرآن حتى أتعلم العربية، وذهبت من يومي إلى الجامعة الكبرى بباريس، وتعلمت اللغة العربية في سنتين، وأنا آخذ يوميا درسا حتى يوم عطلتي، ثم قرأت القرآن بإمعان، ووجدته الكتاب الوحيد الذي يضطر المثقف بالعلوم العصرية أن يؤمن بأنه من الله، لا يزيد حرفا ولا ينقص، وأما التوراة والأناجيل الأربعة ففيها كذب كثير لا يستطيع عالم عصري أن يصدقها)(٨٣١). وكانت ثمرة هذه الدراسة العميقة للقرآن تأليف كتابه المشهور "التوراة والإنجيل والقرآن بمقياس العلم الحديث"، ومما قاله بوكاي في هذا الكتاب :(لقد قمت أولاً بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق، وبموضوعية تامة بحثاً عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث، وكنت أعرف - قبل هذه الدراسة وعن طريق الترجمات - أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، لكن معرفتي كانت وجيزة، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث، وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل، أما بالنسبة للعهد القديم، فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا، وأما بالنسبة للأناجيل، فإننا نجد نص إنجيل متى يناقض بشكل جلي إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض)(٨٣٢).
- ثانيا : الرد التفصيلي :
١- لعل من أقدم الطعون في دعوى تعارض القرآن مع العلم التجريبي، ما ادعاه بعضهم من معارضة قوله تعالى عن العسل :(فيه شفاء للناس ( [النحل : ٦٩].
قال القرطبي :(اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا الحديث، فقال : قد أجمعت الأطباء على أن العسل يُسهِل فكيف يوصف لمن به الإسهال ؟ فالجواب أن ذلك القول حق في نفسه لمن حصل له التصديق بنبيه عليه السلام(٨٣٣)، فيستعمله على الوجه الذي عينه وفي المحل الذي أمره بعقد نية وحسن طوية، فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل وغيره كما تقدم. وأما ما حكي من الإجماع فدليل على جهله بالنقل ؛ حيث لم يقيد وأطلق. قال الإمام أبو عبد الله المازري : ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة، منها الإسهال الحادث عن التخم والهيضات; والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك للطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر، فإذا وضح هذا قلنا : فيمكن أن يكون ذلك الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة، فأمره النبي ( ﷺ ) بشرب العسل، فزاده إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال، فوافقه شرب العسل. فإذا خرج هذا عن صناعة الطب أذِن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة. قال : ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء، بل لو كذبوه لكذبناهم ولكفرناهم وصدقناه ( ; فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه، فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله ( ﷺ ) وتخريجه على ما يصح، إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب)(٨٣٤). وقد أجاب ابن حزم -رحمه الله- على ابن النغريلة اليهودي بأن كلمة (فيه شفاء) نكرة فلا تلزم العموم(٨٣٥)، وقد تقدم معنا كلام الأمام الداني(٨٣٦) أن (ال ) في كلمة (للناس) ليست للعموم بل للجنس.
وهذه هي الطعون العلمية التي ذكرها المجلس الملي النصراني ورد الدكتور شلبي عليها :-
٢_ الأرض ثابتة لا تتحرك :
(جاء في سورة لقمان :(وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم (. وجاء هذا في سورة أخرى.. وقال (( رجال المجلس الملي )) : إن العلم يثبت أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل ٢٤ ساعة فكيف يقول القرآن إنها راسية وثابتة(٨٣٧) ؟
الجواب :(معنى تميد تضطرب وتتزلزل، ولا يراد بالميدان مجرد حركة متزنة، والمصدر الثلاثي (فعلان ) يأتي لإفادة هذا المعنى، مثل ميدان وغليان وثوران وجولان... وهكذا، والآية تذكر أن الله ثبت الأرض حتى يستطيع البشر أن يستقروا عليها في نومهم، ويزرعوا ويرعوا ماشيتهم، ولو كانت مضطربة ما استطاع الناس أن يطمئنوا عليها وأن يعملوا هذه الأعمال.
نحن ننام في الطائرة وفي القطار وفي السفينة، فإذا اضطرب واحد منها استيقظنا وشعرنا بالتعب، وقد نطلب من السائق أن يعمل شيئاً يسكنها لتثبت، ولا يعني تثبيته أنه يقف ولا يتحرك، بل أن ينقطع اضطرابه، وسيذكر القوم بعد معترضين على القرآن أنه ذكر (وكل في فلك يسبحون (، و(كل (كلمة تشمل الشمس وتوابعها من القمر والأرض والكواكب الأخرى، فالقرآن إذن يقرر حركة كل هذه الكواكب)(٨٣٨).
٣_ الكواكب في حجم الحجارة :
(جاء في القرآن :(ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين( [الملك: ٥]، وجاء أيضاً :(ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين([الحجر: ١٦-١٨]، وقال رجال المجلس : إن القرآن جعل النجوم والكواكب في حجم الحجارة، ترمي بها الملائكة الشياطين، والعلم الحديث يثبت أن كل كوكب عالم ضخم.
والذي في الآية أن هناك أجساماً نارية تصيب الشياطين، ولم يذكر أن الشيطان يسقط عليه نجم أو أن الملائكة ترميه به، والعلم الحديث، ورواد الفضاء يتحدثون عن النيازك التي ترى في الفضاء الواسع مذنبات مضيئة، ومنها الناري الذي ينطفئ ويتفتت في سيره، وبعضها يصل إلى الأرض، وهي تشبه المقذوفات البركانية، والذين در