المبحث الثالث : اتجاهات العلماء في التأليف في هذا المجال
للعلماء في الكتابة في هذا الفن عدة اتجاهات ؛ لأن منهم من يقف عند المادة التي يدرسها، والإشكالات التي ترد عليها. ومنهم من يفرد لهذه الطعون كتباً - أو أجزاء من كتب - ثم يرد عليها. وثمة من يركز على شبيهات كتاب أو شخص بعينه، ومن هؤلاء من يهتم بالطعون من حيث هي، دون التفات لقائلها.. وبيان ذلك على النحو التالي :
المطلب الأول : من حيث المادة التي تدرس فلهم فيها اتجاهان على سبيل الإجمال :
١- الجواب على الطعون والإشكالات اللغوية والنحوية :
مثل كتاب " مشكل إعراب القرآن "(٦٩) للقيسي(٧٠)، و" إعراب مشكل القرآن "(٧١) لثعلب(٧٢)، وهذا الاتجاه يجيب عن كل إشكال لغوي ونحوي، وهو في حقيقته دفاع عن قوله تعالى :(إنا أنزلناه قرآنا عربيا...( [ يوسف : ٢ ]، ولعل أول الطعون اللغوية ما اشتهر باسم مسائل ابن الأزرق(٧٣) مع ابن عباس :
عن حميد الأعرج، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد، عن أبيه قال بينا عبد الله بن عباس ( جالس بفناء الكعبة، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر : قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به. فقاما إليه فقالا : إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله، فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب ؛ فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين فقال ابن عباس : سلاني عما بدا لكما. فقال نافع : أخبرني عن قول الله تعالى :(عن اليمين وعن الشمال عزين( قال العزون الحِلق الرقاق. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :
فجاؤوا يُهرعون إليه حتى *
* يكونوا حول منبره عزينا
قال : أخبرني عن قوله :(وابتغوا إليه الوسيلة( قال الوسيلة الحاجة. قال وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم، أما سمعت عنترة وهو يقول :
إن الرجال لهم إليك وسيلة *
* إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
قال : أخبرني عن قوله :(شرعة ومنهاجا( قال : الشرعة الدين، والمنهاج الطريق. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول :
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى *
ج * وبين للإسلام دين ومنهاجا
قال : أخبرني عن قوله (إذا أثمر وينعه( قال : نضجه وبلاغه. قال وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم، أما سمعت قول الشاعر :
إذا ما مشت وسط النساء تأودت *
* كما اهتز غصن ناعم النبت يانع
قال : أخبرني عن قوله تعالى :(وريشا( قال : الريش المال. قال وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم، أما سمعت الشاعر يقول :
فرشني بخير طالما ما قد ريتني*
* وخير الموالي من يريش ولا يبري
قال : أخبرني عن قوله تعالى :(لقد خلقنا الإنسان في كبد( قال : في اعتدال واستقامة. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول :
يا عين هلا بكيت أربد إذ *
* قمنا وقام الخصوم في كبد
قال : أخبرني عن قوله تعالى :(يكاد سنا برقه( قال : السنا الضوء. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث يقول :
يدعو إلى الحق لا يبغي به بدلا *
* يجلو بوء سناه داجي الظلم
قال : أخبرني عن قوله تعالى :(وحفدة( قال : ولد الولد، وهم الأعوان. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم، أما سمعت الشاعر يقول :
حفد الولائد حولهن وأسلمت *
جج * بأكفهن أزمة الأجمال
جج قال : أخبرني عن قوله تعالى :(وحنانا من لدنا( قال : رحمة من عندنا. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم، أما سمعت طرفة بن العبد يقول :
أبا منذرٍ أفنيتَ فاسْتَبقِ بعضنا حنانيك بعض الشرِ أهونُ من بعضِ
قال : أخبرني عن قوله تعالى :(أفلم ييأس الذين آمنوا( قال : أفلم يعلم بلغة بني مالك. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم، أما سمعت مالك بن عوف يقول :
لقد يئس الأقوامُ أني أنا ابنُه وإن كنتُ عن أرضِ العشيرة نائبًا
قال : أخبرني عن قوله تعالى :(مثبورا( قال : ملعونا محبوسا من الخير. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال نعم، أما سمعت عبد الله بن الزُّبَعْرَي يقول :
إذ أتاني الشيطان في سنة النو *
* م ومن مال ميله مثبورا
قال : أخبرني عن قوله تعالى :(فأجاءها المخاض( قال : ألجأها. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم، أما سمعت حسان بن ثابت يقول :
إذ شددنا شدة صادقة * * فأجأناكم إلى سفح الجبل قال : أخبرني عن قوله تعالى :(نديا( قال : النادي المجلس. قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال : نعم، أما سمعت الشاعر يقول :
يومان يوم مقامات وأندية * * ويوم سير إلى الأعداء تأويب
إلى آخر تلك المسائل، وقد جاءت في كتاب "الإتقان" للسيوطي في أكثر من ثلاثين صفحة(٧٤).
وقد بلغت الأبيات التى استشهد بها ابن عباس في شرح ألفاظ القرآن الكريم التي سئل عنها مائة وواحداً وتسعين بيتا. يقول السيوطي عنها : أنه حذف منها بضعة عشر سؤالاً، وهذا يدل على أن أسئلة نافع بن الأزرق وأجوبة ابن عباس والأبيات التي استشهد بها قد زادت كل منها على المائتين.(٧٥).
٢- الجواب على الطعون والإشكالات المعنوية :
أي الطعون التي سببها عدم فهم المعنى، أو القصور في فهمه، أو سوء القصد، وهذا النوع هو الأكثر، ويذكر في ثنايا هذه الكتب الجواب على المطاعن، والإشكالات العقدية و الفقهية واللغوية أيضا ؛ إذا كان لها أثر في فهم المعنى، وهذا النوع هو الأكثر والأشهر، وهو الذي نتكلم عنه في هذا البحث ومن ذلك :
الجمع بين قوله :(لا مبدل لكلماته( [ الكهف : ٢٧ ] مع ما حصل من النسخ، والجمع بين قوله :(في يوم كان مقداره ألف سنة( [ السجدة : ٥٥ ] مع قوله :(في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة( [ المعارج : ٤ ]، والجمع بين قوله :(لا أقسم بهذا البلد(.[ البلد : ١ ] وقوله :(وهذا البلد الأمين(. [ التين : ٣ ] إلى غير ذلك من المسائل والتى ستذكر كثيرا منها فى هذه الرسالة.
المطلب الثاني : من جهة إفراده في التأليف، فإن العلماء يتجهون في الكتابة في هذا الموضوع إلى اتجاهين :
الأول : إفراد هذه الطعون بكتب والرد عليها، مثل كتاب "مشكل القرآن " لابن قتيبة وغيره من الكتب التي سوف يأتي ذكر لها في المبحث القادم.
الثاني : ذكر الطعن في ثنايا الكتاب والرد عليه، كما فعل بيان الحق النيسابوري في كتابه "وضح البرهان في مشكلات القرآن "(٧٦)، والرازي في كتابه " مفاتيح الغيب "، وكثير من المفسرين الذي يتعرضون للرد على هذه الطعون في ثنايا كتبهم.
المطلب الثالث : من حيث المردود عليه، ولهم في ذلك طريقتان :
الأولى : تهتم بالرد على شبهات وطعونات شخص معين أو كتاب معين، مثل ابن حزم الأندلسي في رده على ابن النغريلة اليهودي، ومثل الرد على طه حسين في زعمه وجود أحرف زائدة في القرآن وإنكاره قصته إبراهيم، ونصر أبو زيد في دعواه وجوب التحرر من تطبيق نصوص الكتاب والسنة، والرد على دائرة المعارف الإسلامية في زعمها تحريف القرآن ونقله من التوراة والإنجيل وغير ذلك مما سيأتي في تفصيله والرد عليه.
الثانية : تهتم في الطعون من حيث هي، بغض النظر عمن قالها ؛ فيجمع الطعون ثم يرد عليها، مثل " الروض الريان في أسئلة القرآن " لشرف الدين بن ريان، و"وضح البرهان "السابق لبيان الحق النيسابوري، و" دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب " للشنقيطي وغيرهم، وهذه الطريقة هي الأشهر في هذا الباب، وهي الطريقة التى سرت عليها في هذه الرسالة.
--------------------------------------------------------------------------------
(٦٩) في مجلدين تحقيق ياسين السواس، طبع دار المأمون للتراث، دمشق.
(٧٠) والقيسي هو : أبو بكر محمد مكي بن أبي طالب حموش بن حمد بن مختار القيسي المقرئ أصله من القيروان، وانتقل إلى الأندلس، وسكن قرطبة، وهو من أهل التبحر في العلوم خصوصا القرآن، كثير التصنيف والتصانيف عاش اثنين وثمانين سنة، ورحل غير مرة وحج وجاور، وتوسع في الرواية، وبعد صيته وقصده الناس من النواحي لعلمه ودينه، وولى خطابة قرطبة، وكان مشهورا بالصلاح والخلق جيد الدين والعقل، توفي سنة ثمانية وسبعين وخمسمائة. انظر : شذرات الذهب ( ٢/٢٦٠ ).
(٧١) ذكره القزويني في التدوين في أخبار قزوين (٢/١٥٢)، تحقيق عزيز الله العطاردي، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٨٧.
(٧٢) وثعلب هو : أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيي بن يزيد الشيباني، مولاهم العبسي البغدادي، علامة الأدب، شيخ اللغة والعربية، حدث عن غير واحد، وعنه واحد منهم الأخفش الصغير، وسمع من القواريري مائة ألف حديث فهو من المكثرين، وسيرته في الدين والصلاح مشهورة، صنف التصانيف المفيدة، منها كتاب الفصيح وهو صغير الحجم كبير الفائدة، وكتاب القراءات، وكتاب إعراب القرآن وغير ذلك، توفي سنة تسع وثلاثين ومائة. انظر : شذرات الذهب ( ١/٢٠٧ ).
(٧٣) هو : نافع بن الأزرق الذى ينتسب إليه الأزارقة أحد زعماء الخوارج، قتل في جمادى الآخرة سنة ٦٥هـ بالبصرة، الكامل في التاريخ، بتحقيق عبد الله القاضي، ( ٤ / ١٥ )، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، ١٩٩٥م.
(٧٤) انظر : الإتقان للسيوطي (٢/٥٥-٨٨) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
(٧٥) مدخل إلى علم التفسير : ٧١، ٧٢.
(٧٦) "وضح البرهان في مشكلات القرآن"لبيان الحق النيسابوري، تحقيق صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، ١٩٩٠.