وقديما قال الأحنف: من البلاء أن يكون الرأى لمن يملكه لا لمن يبصره... وقد لاحظنا على الخلافة العباسية انحرافات شتى.. أ- لقد أنشئ جهاز للترجمة، وهذا حسن فإن الرسالة الإسلامية عالمية ويجب أن تنفتح على أقطار الأرض قاصيها ودانيها، فهل استغل ذلك الجهاز فى نشر تعاليم الإسلام؟ كلا، لقد استغل فى نقل معارف الأمم الأخرى إلينا..! وهكذا بدل أن نعلم الآخرين ما لدينا من وحى شرعنا نتعلم ما عند الآخرين من فكر. ويبدو أن النقلة فتنوا بالجديد الذى ترجموه، وأخذوا يوائمون بينه وبين ما عندهم، فإذا الجو الثقافى يشحن بغيوم، أظلمت معها الآفاق، وكانت فتن لا حصر لها... إن المحور الفكرى الذى صنعه الإسلام، هو دراسة الكون، ذلك الكون الذى أبدعه خالقه، ثم أقسم بسمائه وأرضه وليله ونهاره وأنجمه ورياحه ووالده ومولوده، وامتدت الأقسام، حتى شملت أجزاء الزمان والمكان، وصورت آفاق الجمال! فى الضوء والظلمة! تدبر قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق * لتركبن طبقا عن طبق) [الانشقاق : ١٦ـ١٩] إن هذا المحور القرآنى يبنى الإيمان على التأمل المادى والعقلى كما شرحنا آنفا ويبنى عليه كذلك منافع الإنسان القريبة والبعيدة! أما الفلسفة الإغريقية فهى تجريدية تبتعد بالفكر عن المادة، وتعبر المحسوسات إلى قضايا وهمية، ولم يأخذ العالم طريقه إلى الأمام، إلا يوم أن خلفها وراءه، وأعادته الفطرة السليمة إلى منطق القرآن العلمى والعملى! إننى أحب أن أطلع على كل ما لدى الآخرين من حق وخرافة، ويؤسفنى أن عصر الترجمة أضرنا ولم ينفعنا، وأننا بدل أن نهدى سكان الأرض بوحى الله الذى شرفنا به نقلنا إلى بلادنا الأوهام، وسمحنا لها أن تزاحم الحقائق الجليلة... ب- ولقد استبحرت علوم الدين والأدب فى العصر العباسى، وقامت أسواق رائجة لأنواع المعارف والفنون فى المدائن والقرى.. كان أكثر ذلك شعبيا، وأقله ص _١١٦