ومع أن بعض أسفار العهد القديم فى أيام متأخرة لفت الأنظار إلى وجود الجنة والنار، فإن هذا اللفت لم يفلح فى تخفيف نهمة اليهود إلى الحياة الدنيا وتعلقهم بها وحدها، والزعم بأنهم- لو كانت هناك آخرة- فهم ورثتها على طريقة من قال: (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) [فصلت : ٥٠] والمتأمل فى حياة اليهود قديما وحديثا يجدهم رتبوا معايشهم على أن الدنيا حق والآخرة وهم وأن النعيم والجحيم هنا، ولذلك توجه القرآن إليهم بهذا التحدى (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) [البقرة : ٩٤ ـ ٩٦] وأرى أن النزعات المادية النزقة التى تسود الحضارة المعاصرة ترجع إلى تغلغل اليهود فيها، وضعف المقاومة لها. وموسى برىء من هذا الانحراف، وقد لاحظنا أنه فى أول لقاء لكليم الله مع ربه تلقى هذه التعليمات البينة: (وأقم الصلاة لذكري * إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) [طه : ١٤ ـ ١٦] وقد علمت أنه لا وجود لذكر القيامة فى توراة القوم.. والقرآن مهيمن على غيره من الكتب ومصحح لما قد يقع من أخطاء... ولما كانت أعمارنا هنا قصيرة، ولما كنا نستقبل حياة لا يعروها القضاء فإن إغفال هذا المستقبل خيانة وترك الاستعداد له ضياع! ولا ريب أن الإيمان بالآخرة يعين على مشقات التسامى وأعباء التزكية، وعندما غضب نساء الرسول لما يلاقين من حرمان قيل لهن: تجلدن إن كنتن طلاب آخرة: (إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) [الأحزاب : ٢٨ ـ ٢٩] إننا نحب أن نكسب خير الدنيا والآخرة معا! لكن ما العمل إذا خير المرء بين أحدهما، وكلف أن يرضى بالقليل


الصفحة التالية
Icon