الحياة ستارا لأسباب الاحتراق والتلاشى، إن الشجر فى جذوعه وفروعه وأوراقه الخضراء لا يلبث أن يجف ويتحول إلى هشيم تتأجج به النار! وهكذا نرى الموت فى تضاعيف الحياة. إن خواص المادة، مفردة كانت أو مركبة، لا تزال موضع الدراسة والاستفادة، والمركب الكيماوى قد تظهر له صفات مضادة للمفردات التى تألف منها، فالماء مثلا نشربه لنرتوى به ونذهب عطشنا! على حين نرى عنصريه اللذين تكون منهما أقرب إلى الإحراق منها إلى الإرواء! ونحن نبصر فى الحدائق والحقول آيات النضارة والنماء، ولا نبصر ما يتم بعد قليل من مظاهر التلاشى والاحتراق، وكذلك تتعاقب الأضداد، وما أيسر ذلك على القدرة الإلهية (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) [آل عمران : ٢٧] والأخشاب والأحطاب التى تتحول إلى تراب، يتحول ترابها مرة أخرى إلى سماد لأنواع النبات، كما يتحول النبات الذى نطعمه إلى خلايا حية فى أجسامنا! الواقع إن الإنسانية كلها أمام موعدين: أحدهما قريب متعجل، والآخر متراخ متمهل..! إنها أمام الموت الذى لا يطول غيابه، ولابد لكل امرئ أن يذوقه، ثم هى أمام الساعة التى لابد منها وإن طالت الأيام (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون) [الأنعام : ٢]!! (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد) [آل عمران : ٩]. والتكرار المتعمد لذكر القيامة ليس تهديدا للحضارات أو وقفا للعمران البشرى- كما فهم القاصرون- وإنما هو لكسر الغرور، وقمع التطلعات الطائشة. والبشر مازالوا بحاجة ملحة إلى تذكر يوم القيامة، فإن هذا التذكر يهذب غرائزهم ويكفكف أطماعهم، والعقل العادى إذا علم أن هذا اليوم حق لم يؤثر قليلا على كثير، ولا فانيا على باق، ولم يزهد فى جزاء الآخرة كما هو مسلك الحضارة المعاصرة! ص _١٥٦