ولنضرب أمثلة لما ذكرنا من أن الحق يعرض على الناس، فمن قبله شرح الله به صدره، وأنار عقله، ومن أباه زاد الله قلبه ظلمة وسلوكه حيرة.. وعندما يضل الله مجرما، فلن ينقذه أحد، ولن يجد وليا ولا نصيرا، وفى هذا يقول الله تعالى: (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ). الجملة الأولى فى الآية تفيد أن من عاقبه الله بالإضلال فلن ينفعه أحد، والجملة الثانية تفيد أنه إنما أضله لطغيانه وعماه. لكن البعض يقف عند الجملة الأولى وينسى الثانية أو يفهم أن طغيانه جاء نتيجة إضلال الله له وهذا جهل كبير، فإن إضلاله جاء نتيجة طغيانه، فالإضلال نتيجة لا سبب. ويؤكد هذا قوله تعالى فى موضع آخر: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا * ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ). وقد يجئ بعض الناس إلى آية، يقف عقله الكليل عندها، فيفهمها فهما مقلوبا، مثل قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) أو قوله سبحانه: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ). إنه يفهم أن الله خلق للنار ناسا، وخلق للجنة آخرين، ثم دفع هؤلاء دفعا إلى النار ودفع هؤلاء دفعا إلى الجنة، وقد سبق بذلك كتابه!! وهذا كله جهل، فالآيات تعنى أن الله كان قادرا على أن يخلق الناس كلهم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون! لكنه ـ وهو المريد المختارـ صنع البشر على مثال آخر، أو على نموذج فيه صلاحية للعوج والاستقامة، وأدخلهم فى مسابقة عامة، أو فى اختبار حر، وسوف تمتلئ النار بالساقطين، وتمتلئ الجنة بالناجحين.. نعم هو من بدء الخلق يعرف ما سيكون، لكن علمه مبتوت الصلة بنجاة من نجا، وهلاك من هلك. ص _٠٣٨


الصفحة التالية
Icon