هذه سورة الممتحنة من مطلعها إلى ختامها٢ نزلت بالمدينة إذا لاحظنا المكان، وكان نزولها بعد الهجرة إذا اعتبرنا الزمان، ووقعت خطابا لأهل مكة إذا أردنا الأشخاص، واشتملت على توجيه اجتماعي محص قلوب المؤمنين إذا رغبنا بمعرفة موضوعها، لذلك أدرجها العلماء في باب "ما نزل بالمدينة وحكمه مكي"٣.
وذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾٤ نزل بمكة إذا التمسنا المكان، ويوم الفتح بعد الهجرة إن تحرينا الزمان، والغاية منه الدعوة إلى التعارف وتذكير الإنسانية بوحدة أصلها إن عينا الموضوع، وهو -إن راعينا الأشخاص- خطاب لأهل مكة والمدينة على السواء، فما سماه العلماء مكيا على الإطلاق، ولا مدنيا على التعيين، بل أدرجوه في باب "ما نزل بمكة وحكمه مدني"٥.
على أننا لم نتردد في تفضيل التقسيم الزمني للمكي والمدني؛ لأننا نواجه موضوعا وثيق الصلة بالتاريخ، فليس لنا أن نختار في مثله التبويب المكاني ما دمنا نرمي إلى تحديد ما نزل بمكة أو بالمدينة ابتداء ووسطا وختاما، فإن هذه الأطوار المتعاقبة تفرض أن يكون اختيار الترتيب الزمني أمرا بديهيا لا مجال للتردد فيه، أما تعيين الأشخاص واستخراج الموضوعات فأمران ثانويان يقعان موقعهما المناسب من الترتيب الزمني المترادف ترادف الوقائع والأحداث.
وبهذا المنهج التاريخي الزمني، الذي لا يتغاضى عن الآفاق النفسية والأطوار الاجتماعية، ولا يتجاهل أثر البيئة في الحياة والأحياء، أخذ المحققون من علمائنا وشددوا في مأخذهم به حتى منعوا الجاهل بمراحل الدعوة الإسلامية أن يتصدى لكتاب الله مفسرًا لآياته أو خائضا فيه، قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري١: "من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي"٢.
ويعنينا من قول أبي القاسم النيسابوري هنا أنه التفت التفاتة صريحة إلى تقسيم القرآن كله إلى ست مراحل زمنية: ثلاث في مكة بداية وتوسطا وختاما، وثلاث بعدها في المدينة بداية وتوسطا وختاما. فما جنح إليه بعض المستشرقين من ترتيب القرآن على أسباب النزول، وتقسيمه إلى مراحل ست أو أربع٣ -كما سنرى بعد قليل- لا ضرر فيه لذاته، إذا أباح الخوض في مثله علماؤنا الأعلام، وإنما يتجسد الضرر فيه حين يتجافى هذا الترتيب على الروايات الصحيحة ويأخذ بالرأي المرتجل الفطير.
ولو أتممنا عبارة أبي القاسم النيسابوري لألفيناه فيها -بعد التزامه المنهج التاريخي الزمني- لا يلبث أن يلحق بهذا المنهج نفسه جزئيات تبدو في نظرنا صغيرة يسيرة، ولكنها في نظره هامة جليلة، إذ يجعل العلم بها فريضة على كل من يعنى بتفسير كتاب الله المجيد: فعلى المفسر المحقق أن يعرف كذلك "ما نزل بمكة