في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، ثم ما نزل بالجحفة١، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلا، وما نزل نهارًا، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملا، وما نزل مفسرًا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه فقال بعضهم: مكي، وبعضهم مدني: هذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى٢".
ونحن نعترف بأنه ليس في وسعنا أن نعرض هنا تفصيلا لتلك الملابسات كافة، فإن بحث كل منهما على حدة يستغرق مجلدا بأكمله، وهيهات له أن يكون وافيا بالمقصود، شافيا للغليل، فحسبنا -للدالالة على ما عاناه العلماء في تتبع مراحل الوحي- أن نشير إجمالا إلى بعض الروايات التي لم يكتف أصحابها بوصف ما نزل في مكة أو في المدينة، قبل الهجرة أو بعدها، بل بلغت عنايتهم بهذا الكتاب الكريم أقصى ما يبلغه الباحثون من التحري والتدقيق، فلم يفتهم ذكر أبسط التفصيلات وأصغر الجزئيات.
لاحظوا مثلا بصورة عامة أن أكثر القرآن نزل نهارا٣، ثم استرعى انتباههم أن هذه القاعدة لم تتبع في بعض الحالات الجزئية، فسورة مريم أنزلت ليلا. روى الطبراني١ عن أبي مريم الغساني قال: أتيت رسول الله - ﷺ - فقلت: ولدت لي الليلة جارية، فقال: "والليلة أنزلت علي سورة مريم، سمها مريم"٢. وأول سورة الفتح نزلت ليلاً، ففي البخاري من حديث عمر: "لقد نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس"، فقرأ: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾٣. وأول سورة الحج: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ نزل ليلا في غزوة بني المصطلق، وهم حي من خزاعة، والناس يسيرون٤.
ويوشك أحدنا -إذا جعل الروايات الصحيحة عمدته- أن يستحضر النازل القرآني في أي جزء من الليل كان؛ في وسطه أم أوله أم آخره، وإني لأتمثل هذه اللحظة رسول الله - ﷺ - في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح حين نزل عليه -كما في الصحيح- قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾٥، ثم أتمثله صلوات الله عليه في خيمة من أدم وقد بات نفر من أصحابه على باب الخيمة يحرسونه، فلما أن كان بعد هزيع من الليل أنزل الله عليه: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾٦. وأتمثله أخيرا عند السيدة أم سلمة أم المؤمنين وقد بقي من الليل ثلثه٧ حين نزلت عليه آية الثلاثة الذين خلفوا٨.
ولقد تكون الليلة شاتية، ويكون البرد فيها شديدا، فلا يفوت الراوي أن يصفها لنا إرهاصا لذكر الآيات التي نزلت في هذا الجو المكفهر، فما من جزئية مهما تكن تافهة في نظرنا الآن إلا وهي على لسان الراوي شيء له قيمته الدينية والاجتماعية، فليصورها تصويرا واقعيا أمينا، ولا ينقصن منها ولا يزيدن عليها: