رجع المسلمون عن مكة بعد الصلح، وقد كان هذا الصلح مثار اعتراض بعض كبار المسلمين إلا أبا بكر فحينما اعترض عمر بن الخطاب على الصلح قال له : الزم غرزه (أى ركابه وسر مع النبي) يا ابن الخطاب، وقد أثبتت الأيام أنه كان فتحا جديدا ونصرا مبينا للمسلمين، ونزلت في شأنه : هذه السورة الكريمة. (١)
نزلت بالمدينة على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي اللّه تعالى عنهم، والأخبار تدل على أنها نزلت في السفر لا في المدينة نفسها وهو الصحيح. أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال :«أقبلنا من الحديبية مع رسول اللّه - ﷺ - أي عام ست بعد الهجرة وكان قد خرج إليها عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة فأقام بها بضعة عشر يوما، وقيل : عشرين يوما ثم قفل عليه الصلاة والسلام فبينما نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسري عنه وبه من السرور ما شاء اللّه تعالى فأخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح : ١] وأخرج أحمد والبخار والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال :«كنا مع رسول اللّه - ﷺ - في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنه نزل في شيء فقال النبي - ﷺ - : لقد أنزلت علي الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح : ١، ٢] وفي حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داود. وغيرهما عن مجمع بن جارية الأنصاري ما يدل على أنها نزلت بعد منصرفه - ﷺ - من الحديبية أيضا وأن ذلك عند كراع الغميم فقرأها عليه الصلاة والسلام على الناس وهو على راحلته، وفي رواية ابن سعد عنه ما يدل على أنها بضجنان، ونقل ذلك عن البقاعي، وضجنان بضاد معجمة وجيم ونونين بينهما ألف بزنة سكران كما في القاموس جبل قرب مكة، وهذا ونحوه قول بنزولها بين مكة والمدينة، ومثل ذلك يعد مدنيا على المشهور وهو أن المدني ما نزل بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أم بمكة أم بسفر من الأسفار، والمكي ما نزل قبل الهجرة، وأما على القول بأن المكي ما نزل ولو بعد الهجرة بمكة ويدخل فيها كما قال الجلال السيوطي نواحيها كمنى وعرفات والحديبية بل بعضها على ما في الهداية وأكثرها على ما قال المحب الطبري من حرم مكة والمدني ما نزل بالمدينة ويدخل فيها كما قال أيضا نواحيها كأحد. وبدر. وسلع فلا بل يعد على القول بأنه نزل قرب مكة مكيا، فالقول بأن السورة مدنية بلا خلاف فيه نظر ظاهر، وهي تسع وعشرون آية بالإجماع، ولا يخفى حسن وضعها هنا لأن الفتح بمعنى

(١) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (٣ / ٤٧٦)


الصفحة التالية
Icon