وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة، حتى في الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية، ويضعون السلاح فيها ويستعظمون القتال في أيامها، والصد عن المسجد الحرام. حتى أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا، ولا يصده عن البيت المحرم. ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن وصدوا رسول اللّه - ﷺ - والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة. حتى كان العام السادس الذي أري فيه رسول اللّه - ﷺ - هذه الرؤيا. وحدث بها أصحابه - رضوان اللّه عليهم - فاستبشروا بها وفرحوا.
ورواية ابن هشام لوقائع الحديبية هي أو فى مصدر نستند إليه في تصورها. وهي في جملتها تتفق مع رواية البخاري ورواية الإمام أحمد ومع تلخيص ابن حزم في جوامع السيرة وغيرهم.
قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول اللّه - ﷺ - بالمدينة شهر رمضان وشوالا (بعد غزوة بني المصطلق وما جاء في أعقابها من حديث الإفك) وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش الذي صنعوا أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول اللّه - ﷺ - بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة، ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.
قال : وكان جابر بن عبد اللّه - فيما بلغني - يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.
قال الزهري : وخرج رسول اللّه - ﷺ - حتى إذا كان بعسفان «١» لقيه بشر بن سفيان الكعبي.
فقال : يا رسول اللّه! هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل «٢»، قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم أبدا. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم، قد قدموها إلى كراع الغميم «٣». قال : فقال رسول اللّه - ﷺ - :«يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب.
ما ذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة. فما تظن قريش؟ فو اللّه لا أزال أجاهد على الذي بعثني اللّه به حتى يظهره اللّه، أو تنفرد هذه السالفة «٤». ثم قال :«من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟»..
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر، أن رجلا من أسلم قال : أنا يا رسول اللّه. قال : فسلك بهم طريقا وعرا أجرل «٥» بين شعاب. فلما خرجوا منه - وقد شق ذلك على المسلمين -