تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة الفتح من نواح ثلاث، هي :
١ - في السورة المتقدمة حكم قتال الكفار، وفي هذه حكم قتال البغاة (أهل الثورة الداخلية).
٢ - ختمت السابقة بقوله تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وافتتحت هذه ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. تذكيرا لهم بحرمتهم عند اللَّه عند ما وصفهم بكونهم أشداء رحماء، مما يقتضي محافظتهم على هذه الدرجة بطاعة اللَّه تعالى والرسول - ﷺ -.
٣ - في كلتا السورتين تشريف وتكريم لرسول اللَّه - ﷺ -، خصوصا في مطلع كل منهما، والتشريف يقتضي من المؤمنين الرضا بما رضي به الرسول - ﷺ - من صلح الحديبية، وألا يتركوا شيئا من احترامه قولا وفعلا.
ما اشتملت عليه السورة :
موضوع هذه السورة كسابقتها أحكام شرعية لكونهما مدنيتين، وهي أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع الإسلامي على أساس متين من التربية القوية، والأخلاق الرصينة، حتى إنها سميت «سورة الأخلاق» فهي في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وآدابها نوعان : خاص وعام.
أما الآداب الخاصة : فهي ماله علاقة بين النبي - ﷺ - وأمته. وقد ابتدأت السورة بها، فأوجبت طاعة اللَّه تعالى والرسول - ﷺ - وحذرت من المخالفة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا.. ثم أمرت بخفض الصوت أثناء خطاب النبي - ﷺ - إجلالا له وهيبة منه وتعظيما لقدرة : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ.. ثم طالبت المؤمنين بخطاب الرسول - ﷺ - بصفة النبوة والرسالة، لا باسمه وكنيته تعظيما واحتراما له، وجعلت خفض الصوت عند رسول اللَّه - ﷺ - من التقوى، وذمّت من يناديه من وراء حجرات نسائه كعيينة بن حصن وأشباهه، وذكرت السورة في آخرها ذمّ الامتنان على اللَّه تعالى ورسوله - ﷺ - بالإيمان : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ...
ثم تحدثت عن الآداب الاجتماعية العامة : وهي المتصلة بعلاقات الناس بعضهم مع بعض، مما فيه تقرير فضيلة وذم رذيلة، لإقامة دعائم المجتمع الفاضل.
فأمرت المؤمنين بالتثبّت من الأخبار وعدم الإصغاء للإشاعات التي يروجها الفسّاق ويتناقلونها : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ.. وأشادت بمقتضى الإيمان، وكرّهت الكفر والفسوق والعصيان.
ثم أبانت طريق فض المنازعات الداخلية بين فئتين متقاتلتين من المؤمنين وهو الإصلاح، وقتال الفئة الباغية (البغاة) حتى تعود لصف الجماعة والوحدة : وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.


الصفحة التالية