الآيات، والسورة المفتتحة بالحروف الكلية للإحاطة لغيبية المتهجى المسندة إلى آحاد الأعداد، فلعلو رتبة إيراده وطوله ثنى الحق سبحانه الخطاب وانتظمه في سور كثيرة العدد يسير عدد الآي قصيرة مقدارها، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعط والأحكام والثناء وأمر الجزاء ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه وليأخذوا بحظ مما أخذه الخاصة وليكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون. لهم خلفاً مما يعلوهم من مضمون سائر السور المطولات، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف ق الذي هو وتر الآحاد، والظاهر منها مضمون ما يحتوي عليه مما افتتح بألف لام ميم، وكذلك كان - ﷺ - يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمة إليهم لأنهم صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص بهم، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية، وشفعت بسورة المطهرة فخصوا بما فيه القهر والإنابة، واختصرت سورة نون من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين. (١)
كان رسول اللّه - ﷺ - يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها، في الجماعات الحافلة.. وإن لها لشأنا..
إنها سورة رهيبة، شديدة الوقع بحقائقها، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقبها في سرها وجهرها، وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة اللّه، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد، إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب. وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة. تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا.
فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا. كل نفس معدود. وكل هاجسة معلومة. وكل لفظ مكتوب. وكل حركة محسوبة. والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة، في كل وقت وفي كل حال.
وكل هذه حقائق معلومة. ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة، تروع الحس روعة المفاجأة وتهز النفس هزا، وترجها رجا، وتثير فيها رعشة الخوف، وروعة الإعجاب، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب! وذلك كله إلى صور الحياة، وصور الموت، وصور البلى، وصور

(١) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (٧ / ٣٧٤)


الصفحة التالية
Icon