ثم أبانت السورة حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، فالدنيا دار الفناء واللهو واللعب، والآخرة دار الخلود والبقاء والسعادة والراحة الكبرى، وفي ذلك تحذير من الاغترار بالدنيا، وترغيب في الآخرة والعمل من أجلها. ونصحت المؤمنين بالصبر على المصائب، وذمت أهل الاختيال والكبر والبخلاء، وحضّت على العدل وعمارة الكون، وأبانت الغاية من بعثة الرسل الكرام، وأمرت بتقوى اللّه، واتّباع هدي الرسل والأنبياء.
وختمت السورة بالاعتبار بالأمم السابقة، وبقصص نوح وإبراهيم وأحفادهم الرسل، وبقصة عيسى بن مريم، وموقف أتباعه من دعوته، وأوضحت ثواب المتقين، ومضاعفة أجر المؤمنين برسلهم، وأبانت أن الرسالة اصطفاء من اللّه، وفضل يختص به من يشاء من عباده. (١)
حكى القرطبي أنها مدنية بالإجماع، وبعضهم نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب : أنه سمع آيات من أول سورة الحديد عند أخته فأسلم، وعلى هذا تكون هذه الآيات مكية، والظاهر أنها مدنية كلها كما حكى القرطبي، وعدد آياتها تسع وعشرون آية وتشمل هذه السور الحث على التسبيح للّه، ثم طلب الإيمان والإنفاق، ثم التعرض لجزاء الإيمان والإنفاق يوم القيامة، ووعظ المؤمنين بالعظات البالغات، ثم بيان الدنيا وحقيقتها، وبيان دعائم الحكم، وضرب الأمثال بالأنبياء وأممهم، وعلى العموم فالسورة تدور حول الحث على الإنفاق والبذل في سبيل اللّه. (٢)
أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة، وقال النقاش وغيره : هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له، فقد قال قوم : إنها مكية، نعم الجمهور - كما قال ابن الفرس - على ذلك.
وقال ابن عطية : لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد : ٧] فأسلم، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللّه تعالى بهذه الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد : ١٦] إلا أربع سنين، وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد اللّه بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم اللّه تعالى بها إلا أربع سنين وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ
(٢) - التفسير الواضح ـ موافقا للمطبوع - (٣ / ٦٠٩)