بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لُحمة محكمة في نظم الكلام، وسدًى متين من فصاحة الكلمات.
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين : قسم يُثبت سموَّ هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصولَ تطهيره النفوسَ، وقسمٌ يبين شرائع هذا الدِّين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم. وكان أسلوبها أحسنَ ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية، وأساليب الكتب التشريعية، وأساليب التذكير والموعظة، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحدياً إجمالياً بحروف التهجي المفتتح بها رمزاً يقتضي استشرافهم لما يرد بعده وانتظارَهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن فتحوَّل الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقع على نفوسهم فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله :( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ( ( البقرة : ٢٣ ). فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافاً أربعة ( وكانوا قبل الهجرة صنفين ) بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي. وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعاً بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين ابتدىء بذكرهم، ولما كان أشد الأصناف عناداً وحقداً صِنْفَا المشركين الصُّرَحاء والمنافقين لُف الفريقان لفاً واحداً فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويهاً لنفاقهم وإعلاناً لدخائلهم ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت به أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بَدءاً تحدياً يُلجئهم إلى الاستكانة ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدقَ الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العَجُز على الصدر فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعاً. وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيراً لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم، ومنة على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم، وبمزيته بِعِلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله، لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها. فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشدُّ الناس مقاومة لهدي القرآن، وأنفذُ الفِرق قولاً في عامة العرب لأن أهل الكتاب يومئذٍ هم أهل العلم ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله :( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي ( ( البقرة : ٤٠ ) الآيات فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم، ووصْففِ ما لاقَوْا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافاً بلغ بهم


الصفحة التالية
Icon