العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات! وكان اللّه يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه.
وهو - سبحانه - يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا - وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت - فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن! وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة. وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر. ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة.
وقد قيل في هذا الحادث : إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين. وكان من أهل بدر أيضا.
وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان. فلما عزم رسول اللّه - ﷺ - على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال :«اللهم عمّ عليهم خبرنا».. وأخبر رسول اللّه - ﷺ - جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم حاطب.
فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة - قيل من مزينة - جاءت المدينة تسترفد - إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول اللّه - ﷺ - على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدا. فأطلع اللّه - تعالى - رسوله على ذلك استجابة لدعائه. وإمضاء لقدره في فتح مكة. فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها.
وقد روى البخاري في المغازي، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبد الرحمن، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي - رضي اللّه عنه - قال :«بعثني رسول اللّه - ﷺ - وأبا مرثد والزبير بن العوام - وكلنا فارس - وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين». فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول اللّه - ﷺ - فقلنا : الكتاب؟ فقالت ما معي كتاب. فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا.
فقلنا : ما كذب رسول اللّه - ﷺ - لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجته. فانطلقنا به إلى رسول اللّه - ﷺ - فقال عمر : يا رسول اللّه. قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضربن عنقه. فقال النبي - ﷺ - :«ما حملك على ما صنعت؟» قال حاطب : واللّه ما بي إلا أن أكون مؤمنا باللّه ورسوله - ﷺ - أردت أن تكون لي عند القوم يد. يدفع اللّه بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع اللّه به عن أهله