* ثم تناولت أحكام " صلاة الجمعة " فدعت المؤمنين إلى المسارعة لأداء الصلاة، وحرمت عليهم البيع وقت الأذان، ووقت النداء لها، وختمت بالتحذير من الإنشغال عن الصلاة، بالتجارة واللهو، كحال المنافقين، الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى متثاقلين. (١)
مقصودها بيان مسمى الصف بدليل هو أوضح شرائع الدين وأوثق عرى الإسلام وهو الجمعة التي اسمها مبين للمراد منها من فرضية الاحتماع فيها وإيجاب الإقبال عليها وهو التجرد عن غيرها والانقطاع لما وقع من التفرق حال الخطبة عمن بعث للتزكية بالاجتماعه عليه في الجهاد وغيره في العسر واليسر والمنشط والمكره، واسمها الجمعة أنسب شيء فيها لهذا المقصد بتدبر آياته وتأمل أوائله وغاياته، الحاثة على قوة التواصل والاجتماع، والحاملة على دوام الإقبال على المزكي والحب له والاتباع (٢)
نزلت هذه السورة بعد سورة «الصف» السابقة. وهي تعالج الموضوع الذي عالجته سورة الصف، ولكن من جانب آخر، وبأسلوب آخر، وبمؤثرات جديدة.
إنها تعالج أن تقر في أخلاد الجماعة المسلمة في المدينة أنها هي المختارة أخيرا لحمل أمانة العقيدة الإيمانية وأن هذا فضل من اللّه عليها وأن بعثة الرسول الأخير في الأميين - وهم العرب - منة كبرى تستحق الالتفات والشكر، وتقتضي كذلك تكاليف تنهض بها المجموعة التي استجابت للرسول، واحتملت الأمانة وأنها موصولة على الزمان غير مقطوعة ولا منبتة، فقد قدر اللّه أن تنمو هذه البذرة وتمتد. بعد ما نكل بنو إسرائيل عن حمل هذه الأمانة وانقطعت صلتهم بأمانة السماء وأصبحوا يحملون التوراة كالحمار يحمل أسفارا، ولا وظيفة له في إدراكها، ولا مشاركة له في أمرها!
تلك هي الحقيقة الرئيسية التي تعالج السورة إقرارها في قلوب المسلمين. من كان منهم في المدينة يومذاك على وجه الخصوص، وهم الذين ناط اللّه بهم تحقيق المنهج الإسلامي في صورة واقعة. ومن يأتي بعدهم ممن أشارت إليهم السورة، وضمتهم إلى السلسلة الممتدة على الزمان. وفي الوقت ذاته تعالج السورة بعض الحالات الواقعة في تلك الجماعة الأولى في أثناء عملية البناء النفسي العسيرة المتطاولة الدقيقة. وتخلصها من الجواذب المعوّقة من الحرص والرغبة العاجلة في الربح، وموروثات البيئة والعرف. وبخاصة حب المال وأسبابه الملهية عن الأمانة الكبرى، والاستعداد النفسي لها. وتشير إلى حادث معين. حيث كان رسول اللّه - ﷺ - يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية فما إن أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به - على عادة الجاهلية - من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة! وتركوا رسول اللّه - ﷺ - قائما. فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون!
(٢) - نظم الدرر ـ موافق للمطبوع - (٧ / ٥٩٠)