كان ختام سورة « الجمعة » كاشفا عن وجه من وجوه المنافقين، الذين كانوا يشهدون صلاة الجمعة مع النبىّ، حتى إذا سمعوا لهوا، أو أحسّوا قدوم تجارة، أسرعوا إلى هذا اللهو، أو تلك التجارة، دون أن يشعروا بأنهم بين يدى النبىّ، وفى مقام ذكر اللّه.. لأن قلوبهم خالية من هذه المشاعر التي تصلهم باللّه، وبرسول اللّه.. إنهم ما جاءوا رغبة فى مرضاة اللّه، ولا شهودا لذكر اللّه، وإنما جاءوا حتى يراهم المؤمنون أنهم على الإيمان باللّه، مداراة لنفاقهم، وسترا لكفرهم.. ثم إنهم ما إن تهبّ عليهم سحابة ريح من أي اتجاه، حتى تعرّبهم من هذا الثوب الزائف الذي لبسوه، ودخلوا به فى زمرة المؤمنين ـ وقد ناسب ذلك أن تجىء سورة المنافقين، فى أعقاب سورة الجمعة لتكشف عن أكثر من وجه من وجوه النفاق.. كما سترى ذلك، فيما حدّثت به السورة عن النفاق والمنافقين. هذا، ويلاحظ أن ما جاء فى ختام سورة « الجمعة » عن المنافقين قد جاء تلميحا.. وأن ما جاءت به سورة « المنافقين » عنهم ـ كان تصريحا يكشف عن هذا التلميح.. وهذا من أروع وأعجب ما يرى من إعجاز القرآن، حيث يمسك ختام سورة « الجمعة »، وبدء سورة « المنافقين » بالصورة الكاملة للمنافقين، فى ظاهرهم وباطنهم جميعا.. فهم فى الظاهر مؤمنون، يشهدون مشاهد المؤمنين فى الصلاة وغيرها، وهم فى الباطن منافقون، كاذبون! (١)
مقدمة وتمهيد
١ - سورة « المنافقون » من السور المدنية الخالصة، وعدد آياتها إحدى عشرة آية، وكان نزولها بعد سورة « الحج »، وقبل سورة « المجادلة ».
وقد عرفت بهذا الاسم منذ عهد النبوة، فقد جاء في حديث زيد بن أرقم - الذي سنذكره خلال تفسيرنا لها - أنه قال :« فلما أصبحنا قرأ رسول اللّه - ﷺ - سورة المنافقين ».
وقال الآلوسى : أخرج سعيد بن منصور، والطبراني في الأوسط - بسند حسن - عن أبى هريرة، قال : كان رسول اللّه - ﷺ - يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بسورة الجمعة، فيحرض بها المؤمنين ويقرأ في الركعة الثانية بسورة المنافقين، فيقرع بها المنافقين.
٢ - والمحققون من العلماء على أن هذه السورة، نزلت في غزوة بنى المصطلق، وقد جاء ذلك في بعض الروايات التي وردت في سبب نزول بعض آياتها، والتي سنذكرها خلال تفسيرنا لها - بإذن اللّه - وكانت هذه الغزوة في السنة الخامسة من الهجرة.